وكان يقول:
لا يعصى أحدكم ربه عز وجل ويمر على الهوام الضعيفة إلا وتود أن الله تعالى يعطيها قوة لتبطش به غِيرةً على جناب الحق تعالى.
ولا يمر على الطيور والوحوش إلا ويستعيذون بالله تعالى من رؤيته، ولا يَرِدُ ماءً إلا ويودُّ أن لا يشربه، ولا يمرُّ في الهواء إلا ويود أن لا يكون مَرَّ به.وكان يقول: كيف تطلبون أن الله تعالى ينبت لكم الزرع أو يدر لكم الضرع، وأنتم تسلون السيوف على أحد من هذه الأمة المحمدية وتلطخون الحراب من دمائهم.
وكان يقول:
إذا صدق الفقير في الإقبال على الله تعالى انقلبت له الاضداد، فعاد من كان يبغضه يحبه، ومن كان يقاطعه يواصله، ومن كان لا يشتهيه يثني عليه، ولا يصير يكرهه إلا مجرم أو منافق.
وكان يقول:
ما قطع مريدٌ وِرْدَهُ يوماً إلا قطع الله عنه الإمداد ذلك اليوم.واعلم يا ولدي أن طريقتنا هذه طريقُ تحقيق وتصديق وجهد وعمل، وتنزه وغضِّ بصرٍ وطهارة يدٍ وفرجٍ ولسان. فمن خالف شيئاً من أفعالها رفضته الطريق طوعاً أو كرهاً.
وكان يقول:
يا حامل القرآن لا تفرح بحمله، حتى تنظر هل عملت به أم لا فإن الله عز وجل يقول: {مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها، كمثل الحمار يحمل أسفاراً } ولا تخرج عن كونك حماراً إلا إن عملت بجميع ما فيه ولم يكن منه حرف واحد يشهد عليك.
وكان يقول:
يا أولادي كم غروركم لهوكم لعب، كم غىُّ كم هوىً كم افتراء كم نكدُكم غدركم سهوُكم نسيان، كم غفلةٌ كم زلة كم اجرام كم زوركم فتوركم، وعظ تسمعون ولا تتعظون، ما أنتم إلا كالأموات.
وكان يقول:
لو فتح الحق تعالى عن قلوبكم أقفال السدد لاطلعتم على ما في القرآن من العجائب والحكم والمعاني والعلوم واستغنيتم عن النظر في سواه، فإن فيه جميع ما رُقم في صفحات الوجود. قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} ومن فَهَّمَهُ الله تعالى في كتابه أعطاه تأويل كل حرف منه وما هو، وما معناه، وما سبب كل حرف، وما صفة كل حرف، وعلم المكتوب من الحروف في العلوي والسفلي والعرش والكرسي والسماء والماء والفلك والهواء والأرض والثري.
وكان يقول:
إذا كان المقتدي بالشرائع والكتاب واقفاً بين الأمر والنهي، كان فتحه حقيقياً حتى يفك به كل مشكل، ويحل به كل طلسم ويعرف به كل مبهم، وأما إذا كان فتحه حفظ كلام، وترتيب وصف مقامات، فذلك ليس بفتح، إنما هو حجاب له عن إدراك الإدراك.
وعن مشاهدة علوم الحق، وليس من وصف كمن عرف وحمل ونطق بلسان العرفان، وكم من حَمَلَتْهُ العنايةُ حتى شاهد ومع ذلك فلو سئل عن وصف المقامات ما وصفها، ومقصودي لجميع أولادي أن يكونوا ذائقين لا واصفين، وأن يأخذوا العلوم من معادنها الربانية لا من الصدور والطروس، فإن القوم إنما تكلموا عما ذاقوا وقلوبهم كانت ملآنة بعطاء الله تعالى ومواهبه، ففاضت منها قطرات من ماء الحياة التي فيها فانفجرت علومهم عن عين عين عين عين عن حاصل ماء الحياة. وأما الوصَّاف فإنما هو حاك عن حاك غيره، وعند التخلق والفائدة لا يجد نقطة ولا ذرة من ذوق القوم، وينادي عليه هذا الذي قنع بالقشور في دار الغرور، ولقد أدركنا رجالاً وأحدهم يستحيي أن يذكر مقاماً لم يصل إليه، ولو نشر بالمناشير ما وصفه، فيا جميع أولادي إذا سألكم أحد عن التصوف مثلاً أو عن المعرفة والمحبة قلا تجيبوه قط بلسان قالكم، حتى يبرز لكم من صدق معاملتكم ما برز للقوم فيكونُ كلامكم عن حاصل وعن محصول، فإذا قام أحدكم بالأوامر الدينية، وصدق في العمل، ترجم لسانه بالفوائد التي أثمرت من صدقه، وكل من ادعى الصدق والإخلاص ولم يحصل عنده ثمرة الأدب والتواضع فهو كاذب، وعمله رياء وسمعة، لا يثمر له إلا الكبر والعُجْبَ والنفاق وسوءَ الأخلاقِ شاء أم أبي. وكان يقول: ليس التصوف لبس الصوف، إنما الصوف من بعض شعار التصوف فإن دقيق التصوف رقيق صفاته، ورونقُ بهجةِ ترقيه لا يحصل إلا بالتدريج فإذا وصل الصوفي إلى حقيقة التصوف المعنوي لا يرضى بلبس ما خشن لأنه وصل إلى مقامات اللطافة، وخرج عن مقامات الرعونة وعاد ظاهره الحسي في باطنه الآلي، واجتمع بعد فرقة وقذف فيه جذوة نار الاحتراق، فعاد الماء يحرقه والثلج والبرد يقوي ضرامه، والقميص الرقيق لا يستطيع حمله، للطافة سره وزوال كثافته، بخلاف المريد في بدايته، يلبس الخشن ويأكل الخشن ليؤدب نفسَهُ، وتخضع لمولاها ويحصل لصاحبها تمهيد للمقامات التي يترقى إليها، فكلما رق الحجاب ثقلت الثياب.