الحب الإلهي عند رابعة العدوية والصوفية
مدخل:
رابعة العدوية عاشقة الله، أنموذج الحق والقوة، ومقاومة الخوف من البشر، فهذه الدراسة تحاول تسليط الأضواء على امرأة عرفت سرّ الحياة والوجود كانت عابدة لله كما أراد الله.
في هذه الأنوثة الحقّة تكمن صفات الحب المقاوم للضعف الإنساني أمام عبودية الإنسان للإنسان، وعبوديته للناس والأشياء.
فكيف استمدت رابعة العدوية هذه القوّة الخارقة في مقارعة الخوف؟ وكيف استطاعت أنثى بعيدة عن كنف الأب والزوج أن تكون قبلة الزهاد والأولياء والصوفية؟
وكيف استطاعت هذه المرأة أن تكون أقوى من الرجال بحيث أصبحت مضرب الأمثال في كل العصور والأزمان؟
وكيف وصلت رابعة العدوية إلى قمة من دائرة الخوف الإنساني لتكون أنموذج الصبر والتحدي؟
وكيف استطاعت رابعة العدوية مؤدبة عصرها يومّ مجلسها أعلام الرجال، تطلع عليهم أنوار عبوديتها فتخنس شياطينهم، وتنطفي نوازع شرهم؟
وكيف استطاعت رابعة العدوية أن تنال لقب شهيدة العشق الإلهي كما يقول عبد الرحمن بدوي " شهيدة العشق الإلهي"؟
رابعة العدوية
أم الخير، رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، مولاة آل عيتك، الصالحة المشهورة، كانت من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة ولدت بالبصرة سنة 95ه أوائل القرن الثاني الهجري، وعاشت رابعة في القرن الثاني الهجري، وهو العصر الذي ظهر فيه أعلام كثيرون في التصوف منهم الحسن البصري (ت 110ه) وسعيد بن المسيب (ت 159ه) ويحيى بن حي (ت 131ه) والأوزاعي (ت157 ه)، وسفيان الثوري (ت161ه) والليث بن سعد (ت175ه) والشافعي (ت 204ه) والإمام مالك (ت179ه) وسفيان الثوري (ت 198ه) وعبد الله بن المبارك (ت181ه) وابن السماك (ت183) والفضيل بن عياض (187ه) وإبراهيم بن الأدهم (ت 162ه) ومعروف الكرخي (ت200ه) وغيرهم. توفيت سنة 185ه ودفنت ببيت المقدس وقبرها يزار. (انظر ابن خلكان. 2/285-288، ابن الجوزي، 4/27-28).
الطريق إلى المحبة الإلهية عند رابعة:
وترى رابعة العدوية أن الدخول على المحبة الإلهية لا بد من اتباع ما يلي:
الورع
لقد عرفت رابعة العدوية أن الورع هو المدخل الأسنى في الدخول على حضرة علام الغيوب وفي ذلك يقول سهل بن يحيى: "لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه هذه الأربع: أداء الفرائض بالسنن، وأكل الحلال بالورع، واجتناب النهي عن الظاهر والباطن، والعبد على ذلك حتى الممات" (القشيري: 1/299). وقد أورد ابن خلكان حكاية عن ورعها وتقواها فقال: قالت رابعة العدوية لأبيها: يا أبت، لست أجعلك في حل من حرام تطعمينه فقال لها: أرأيت إن لم أجد إلا حراماً؟ قالت: نصبر في الدنيا على الجوع خير من أن نصبر في الآخرة عن النار" (ابن خلكان 2/285). فالورع أن تطيب مطعمك فلا تأكل إلا الحلال، وهكذا كان وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين إذ قال: "مثل المؤمن كالنحلة، إذا أكلت لا تأكل إلا طيباً وإذا أخرجت لا تخرج إلا طيباً، إذا وقفت على عود نخر لم تكسره." وقد روي عن الحسن بن يسار قوله: صلاح الدين الورع وفساد الدين الطمع (القشيري1/34).
الصدق
من السمات المهمة في شخصية رابعة العدوية صدقها مع الله, ومع الناس. فالصدق منجاة من كل الآثام, وهي مطلب الأنبياء والصالحين. وفي ذلك ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء، آية 84) وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الرجل يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وهكذا فإنها قبلت الصدق مع الله ودونه إن هذا الأمر جعل الآخرين يخافونها ويهابونها. فقد كانت تنصح دون خوف ولا وجل من أحد. دخل على رابعة رباح القيسي وصالح ابن عبد الجليل وكلاب ، فتذاكروا الدنيا فأقبلوا يذمونها فقالت رابعة: إنيّ لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم، قالوا: ومن أين توهّمت علينا؟ قالت: إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم، فتكلمتم فيه. (ابن الجوزي4/28). وهكذا كان الصدق في نظر رابعة العدوية كما يقول الغزالي، للصدق معانٍ ستة: صدق في القول، وصدق في النية وصدق في العزم، وصدق في الوفاء، وصدق في العمل وصدق في تحقيق مقامات الدين (عبد القادر عيسى، 302ص).
الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة
إن من أهم صفات أهل الله الصالحين، والصوفية المخلصين العزوف عن الدنيا وزخارفها، والإقبال بالقلب على الله. وهذا ما عنته رابعة العدوية في ردها على من طلب زواجها. أورد ابن خلكان حكاية عن رابعة العدوية قال فيها: "كان أبو سلمان الهاشمي له بالبصرة كل يوم ثمانين ألف درهم فبعث علماء البصرة في امرأة يتزوجها، فأجمعوا على رابعة العدوية، فكتب، إليها: أما بعد فإن ملكي من غلة الدنيا في كل يوم ثمانون ألف درهم، وليس يمضي إلا قليل حتى أتمها مائة ألف إن شاء الله، وأنا أخطبك نفسك، فأجيبيني، فكتبت إليه: أما بعد فإنّ الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، والرغبة فيها تورث الهمّ والحزن، فإذا أتاك كتابي فهي زادك وقدم لمعادك، وكن وصي نفسك، ولا تجعل وصيتك إلى غيرك وهم دهرك، واجعل الموت فطرك، فما يسرني أن الله خوّلني أضعاف ما خوّلك، فيشغلني بك عنه طرفة عين" والسلام. (ابن خلكان، 2/286).
من هذه الحكاية تفهم رابعة أن المال والجاه والسلطان لا يغيرُها كل ذلك، بل كانت ترى أن الله تعالى قد أعطاها من المحبة والراحة الأبدية أضعاف عطايا مال أبي سليمان الهاشمي. وهي بهذا رفضت أن يشغلها عن الله هذا التاجر الثري وماله.
ولقي سفيان الثوري رابعة – وكانت مزرية الحال فقال لها يا أم عمرو أرى حالاً رثة، فلو أتيت جارك فلاناً لغير بعض ما أرى فقالت له: يا سفيان وما ترى من سوء حالي، الست على الإسلام فهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر فيه، والأنس الذي لا وحشة معه، والله إني لاستحي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسال من لا يملكها، فقام سفيان وهو يقول: ما سمعت مثل هذا الكلام... (ابن خلكان، 2/286).