بسم الله الرحمن الرحيم
تابع درس النفس البشرية
لسيدي الفقير الى الله تعالى سيدي الباسل رضي الله عنه وارضاه
شيخ ومؤسس الطريقة النورانية المحمدية الربانية الإلهية
ببيت المقدس ــ أرض الإسراء والمعراج
اعلم عـِلـْمَ اليقين أنّ النفس الأمّارة لا تأمر صاحبها بخير على الإطلاق، لأنـّها بوابة إبليس الكبرى، ومنها يدخل إليها وإلى العقل وإلى القلب وإلى الروح ليفسدهم، وهذا كله عن طريق بوابات النفس الخمسة وهي: الحواس - حاسّة السّمع، وحاسّة البصر، وحاسّة الذوق، وحاسّة الشـَّم، وحاسّة اللـَّمس- فمتى أغلقت النفس هذه البوابات أمام إبليس لا يكون هناك مجال ليدخل عليها. فإنّ الله عز وجل جعل قوة إبليس فقط بالوسوسة لقوله تعالى: ﴿ فَوَسْوَسَ لـَهُمَا الشـَّيْطانُ ﴾ الأعراف/٢٠ .وقوله تعالى: ﴿ مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ ۞ الذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۞ مِنَ الجِنَّةِ وَ النَّاسِ ﴾ الناس/٤-٦. إنّ هذه هي قوته بحيث تحتوش الشياطين نفس الإنسان لتهلكه، وعلى مرِّ العصور والأجيال هذه هي طريقته من عهد أبينا آدم عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، بالوسوسة والتزيين، فالنفس البشرية تغرق بالحرام عن طريق الحواس الخمسة إن جيـَّرَتها للشيطان واللهو والدنيا والهوى، فعندما تسمع قول الله تعالى: ﴿ إنّ النـَّفْسَ لأمـّارةٌ بِالسُوُءِ ﴾ يوسف/٥٣. نعم إنـّها قبل أن تكون أمّارة هي سيئة، وتحبّ السوء وفعله وغارقة فيه، ولذلك تأمر بالسوء، طبعا ًمن تأمر؟ تأمر العقل ليفسد، وتأمر القلب لكي لا يكون لله عز وجل، والروح لكي يصبح الإنسان شيطانا ًكاملا ً،ومِن ثـَمَّ تبدأ بأمر غيرها مِن الأنفس لكي تكون على شاكلتها بالسوء، وهكذا تصبح نقطة إفساد، ومِن هنا وجب مخالفتها وتربيتها على أيدي أصحاب هذا العلم، عِلـْم التـّربية والتـّزكية والسلوك، أصحاب الحال الصادق مع الله عز وجل، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ يَوْمَ تَأتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ﴾ النحل/١١١. ماذا ستجادل؟ وبماذا ستجادل؟ إن عاش ذلك الإنسان ومات على تلك النفس الأمّارة والله سبحانه وتعالى يقول ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أحْضَرَتْ ﴾ التكوير/ ١٤. إذا ًمِنَ الواضح لكل إنسان أنّ النفس إنْ لم تتربـّى ستكون سببا ًللهلاك، وغضب الله عز وجل، ومِن هنا يقول البوصيري صاحب البردة:
وخالِف النفس والشيطان وأعْصِهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
فالنفس كالخيل الجموح إن لم تلجمها بلجام الحق وسيرتها كما يريد الله عز وجل لجمتك هي بلجام الباطل وسيرتك كما يريد إبليس أعاذنا الله من ذلك، إياك ثم إياك ثم إياك أن تفكر ولو للحظة أن النفس البشرية بسيطة فإن فيها بدائع وغرائب صنع الله عز وجل، تلك النفس التي خلقها الله عز وجل بيديه ونفخ فيها من روحه وأراد منها ترقى إلى مرتبة تلك النفخة الرّبانية لتمتزج بتلك النفخة لتكون هي أيضا نفخة، وعندما يقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - (ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه). يريد تعليمنا كأن الله يقول لنا إني خلقت الكل طاهرين نقيين، ليس فيك خبث ومن ثم يأتي دورك أنت إما أن تبقيها على طهارتها وبراءتها وفطرتها، وإما أن تسير بها السير المظلم لتفقد النفس طهارتها وبراءتها وفطرتها، نعم إخوة الإيمان النفس كيفما سيرتها تسير، ومن هنا يأتي قول الشاعر عن ذلك:
والنـّفس كالطـّفل إن تـُهملهُ شبَّ على حبِّ الرّضاعة وإن تـَفطمه ينفطم
إن البيئة التي تتربى النفس فيها تكون صفاتهم كصفات أهل تلك البيئة. فإن أردت الفلاح لنفسك وأردت تربيتها فاختر لها البيئة التي تقربها من الحق سبحانه وتعالى، بيئة يرضاها الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - فإن البيئة الصالحة تعين على الصلاح والتقوى والرقي الدائم، فعلى قدر صلاح تلك البيئة يكون صلاح النفس التي وُضِعَت فيها. إنّ النفس بطبعها طويلة الأمل، صاحبة تسويف كبير، ولا تفكر بعواقب الأمور، المهم عندها أن تملك كل شيء، وتعيش وتغرق بالشهوات واللذائذ، غرّها بُعْدُ المَوْتِ عنها لأنها لا تفكر فيه، ولا تعتبر بمن مات قبلها، ولم توقن أنه سيأتيها على حين غِرّة.
في كل يوم لنا ميت نشيعه ننسى بموته أثار موتانا
فالإنسان مكون من كيانين: كيان مادي، وكيان روحي، فالكيان المادي مكوّن من: النفس والعقل، والكيان الروحي مكون من: القلب والروح، فإنك إمّا أنْ تحيي الكيان المادي، أو تحيي الكيان الروحي، أو تحيي الكيانين معاً. فإنك إن أحييت النفس على حب هذه الدنيا وشهواتها فإنك أفسدتها، وتقوم هي بدورها بإفساد العقل والقلب والروح، وإن أمتَّ نفسك، أحييت قلبك، فكل ما ثقل على النفس خفَّ على القلب، وكان سبب حياته، فكلمة سيدنا الجنيد - رضي الله تعالى عنه - عندما عن سُئل عن التصوّف ما هو؟ فقال: " أن يميتك الحقّ عنك، ويحييك به " أنظر يجب أن تموت نفسك، لا بدّ مِن ذلك، فإنّ سبب كل ذنب وكل معصية وكل مخالفة وكل فساد هي النفس الأمّارة بالسوء. فإنّ سبب رجوع المسلمين عمّا كانوا فيه مِن عز ومجد وقوة سببه النفس الأمّارة بالسوء، أمَا آن الآوان أن تزجرها وتربيها التربية اللائقة؟ أم أننا نريد أن يحل بنا ما حل بمن قبلنا؟ أما لنا بهم عظة فنتعظ! إنّ النفس البشرية الأمّارة لا تكف عن حب التملك بأي وسيلة كانت، ولا يردعها رادع، ولا يمكن أن تقنع بما هي فيه، أو بما هو عندها، دائمة التمني والسعي للحصول مع الزيادة والنظرة الشرهة، ولو أنها أمتلكت الدنيا بأسرها لبحثت عن غيرها لتمتلكها، ليس لها حد لتقف عنده إن لم تـُرَبّى. ومِن هنا يأتي قول سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - ( لو أن ابن آدم أعطي واديا ملأىً من ذهب أحب إليه ثانيا ، ولو أعطي ثانيا أحب إليه ثالثا ، ولا يسد جوف ابن آدم إلا التراب ). نعم لا تقتنع إلا عند الموت، وياليتها عندئذ تنفعها قناعتها وندمها، يقول الإمام سيدنا علي - رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه :
النفس تبكي على الدنيا وقد عَلِمت أنّ السّلامة فيها ترك ما فيهــا
لا دار للمرء بعد الموت يسكنـــها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن الله عز وجل ذكر في كتابه العزيز وكتبه السابقة والأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين حذروا من هذه النفس الأمّارة بالسوء، وما زلنا لا نعتبر ونسير ورائها، ما الأمر؟ ما كل ذلك الجهل؟ إنّ العجب كل العجب منك يا ابن آدم! تعلم أنّ نفسك هي سبب في غضب الله عليك ودخولك جهنم والعياذ بالله، ولا تنقذ نفسك من ذلك، ولا تنجي حالك من غضب الله عز وجل، إنّ فلاح النفس بمخالفتها وليس بمحالفتها فإن هوى النفس لا يطاق، ولا بدّ مِن أن يُجابَه فإنّ على ذلك الأجر العظيم، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى ۞ فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى﴾ النازعات/ ٤٠-٤١. أنظر إنك إذا خالفت هذه النفس الأمّارة، جزاؤك الجنـّة، ماذا تريد أعظم من ذلك! قـُم فانهض وبادر بتربية نفسك، واسعى إلى مَن يربيها لك قبل فوات الأوان، قبل أنْ يأتيَ عليك يوم فتقول ﴿ يَا حَسْرَتَى عَلى مَا فَرَّطتُ فِي جَنْبِ اللهِ ﴾ الزّمر/٥٦ . وتقول أيضا ﴿ يَا لـَيْتَنِي إتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ً۞ يَا وَيْلـَتَى لـَيْتَنِي لـَمْ أتَّخِذْ فُلانَا ًخَلِيلا ً﴾ الفرقان/٢۷-٢٨. قم ما دام الوقت سانحا ًوسامحا ًلك بذلك، واعقد النيّة على مخالفة هذه النفس، فإن متّ تؤخذ بنواياك الصادقة، انظر لم يترك الله لك باب رحمة إلا وفتحه لك، فلا تغلقه أنت بنفسك .آن الأوان أن تفهم ما هي عليه نفسك من فسق وضلال؟! يقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - (يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان ؛ الحرص والأمل) حرص نفسك على هذه الدنيا الفانية، والطمع فيها، شتـّان ما بين أن يكون حرص وطمع نفسك هكذا، أو أن يكون حرصك على الجنة والطمع فيها حرصك على رضاء الله والطمع فيه، حرصك على رؤية رسول الله يوم القيامة والطمع في مرافقته في الجنة، كل هذا فقط بمخالفة نفسك، إذا ًخالـِف نفسك وتعال. إنّ حضرة الله عز وجل لا تقبلك مع نفسك، ما دامت لك تلك النفس لا يمكن أن تدخل حضرة الله عز وجل، وأن تتذوق ما يتذوقوه مِن معارف وواردات إلهية كريمة مَن دخلوا الحضرة بترك نفوسهم، إذا ًبادِر إلى إنقاذ نفسك من الجهالات التي هي بها. هذا الإنسان الذي أدرك ما يدركه غيره ممّن لا يسْعُون إلى إنقاذ أنفسهم فإنّ نفس الإنسان تتلاعب، وإنّ الأمور لا تـُدرَك إلا بالمجاهدة. وكما قالوا أهل الله: "جاهد تشاهد" و "المعرفة عروس مهرها النفوس، للعاقل نور وللجاهل نار". فلا تكن عبدا ًلنفسك وشهواتها، فكم مِن إنسان كان عبداً لنفسه فأهلكته وسيّرته في ظلام دامس! فإن النفس كالعدو إذا غـُلـِبَت، يجب محاربتها ومجاهدتها، ومِن هنا ننصح كل إنسان مسلم يريد أن يسير نحو العلى أن يبحث بـِجد ٍلأنه مِن جدَّ وجدَ، عن مُرَبٍّ صادق، لكي يميت له نفسه عن هذه الدنيا الفانية، ويحيي قلبه لله تعالى ﴿ وَ الآخِرَةُ خَيْــرٌ وَ أبْقَى ﴾ الأعلى/١۷ .فإنهم أعلم وأدرى بتلك النفوس وكيفية ترويضها، وجَعْلـِها خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى.
إن الله عز وجل جعل للنفس أسماء كثيرة وأهل الله قسَّموا النفس إلى عدّة أسماء فقول الله تعالى: ﴿ إنّ النـَّفْسَ لأمـّارةٌ بِالسُوُءِ إلا مِا رَحِمَ رَبـّي إنّ رَبّي غَفُؤرٌ رَحِيِمٌ ﴾ يوسف/٥٣. وقوله تعالى ﴿ وَ لا أقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللـَّوَامَةِ ﴾ القيامة/٢ . وقوله تعالى ﴿ وَ َنْفسٍ وَ مَا سَوَّاهَا ۞ فَألـْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا ﴾ الشمس/۷-٨ .أي الملهمة، وقوله تعالى: ﴿ يَا أيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ﴾ وقوله تعالى ﴿ إرْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَة ً﴾ وقوله تعالى ﴿ مَرْضِيَّة ً﴾...سورة الفجر. ومِن ثـَمَّ تأتي النفس الكاملة، أعلى نفس، نفس سيدنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
هذه أقسام النفس كما سمّوها أهل الله، أو مرحلة ترقيها، أي أنها تترقى من النفس الأمّارة بالمجاهدة لتتنقل إلى التي أعلى منها حتى تصل على النفس الكاملة.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون
وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين
--------------------------------------------------------------------------------