العابدة الزاهدة رابعة العدوية
إلى القلوب التي خشيت بمحبة الدنيا الفانية..
إلى القلوب التي تعلقت بعواطف ومشاعر وهمية تسقط بها إلى قاع المخالفات والغفلات وتحجبها عن خالقها، نهدي إليها لقطات من حياة إمرأه هامت في حب الله ..
حتى كانت مزيجا من الأشواق يتحرك في صورة بشر ..
إنها رابعه العدويه .
من هي رابعه ؟
هي رابعه بنت إسماعيل العدويه نسبه إلى بني عدوه ولدت عام 95هـ في القرن الثاني للهجرة في البصرة..
حيث كانت البصره تعج بالعلماء والفقهاء والزهاد وتمتلئ بقصور الأغنياء وأكواخ الفقراء..
في أحد تلك الأكواخ الفقيره ولدت رابعه ..
قيل أنها سميت رابعه لأنه سبقتها ثلاث أخوات فأطلق عليها والدها اسم رابعه ..
عرفت بشدة الذكاء وسرعة التلقي حتى حفظت القرآن من في سن صغير .
رؤيا والدها :
عندما ولدت لم يكن في المصباح الذي يضئ البيت زيتا إلا ضوءا شاحبا ..
ولم تجد الأم ما تستر به الطفلة الصغيرة ..
خرج والدها يلتمس ما يستعيره من الجيران فلم يجد شيئا ونام حزينا فرأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : لا عليك إن هذه البنت التي ولدت سيده جليلة القدر، وإن سبعين من أمتي ليرجون شفاعتها .
محنة فيها منحه:
اشتد القحط في البصرة فوقعت رابعه فريسه للرق بعد أن تفرقت أسرتها ..
كانت رابعه بارعه الجمال تجيد العزف على الناي فاستغل ذلك سيدها وجعلها تغني لزواره مما سبب لها ألما كبيرا ..مكثت رابعه تتعذب مع سيدها ويروى إنها بينما كانت تجوب أزقة البصرة شكت إلى الله حزنها فسمعت هاتفا يقول لها: لا تحزني ففي يوم الحساب يتطلع المقربون إليك يحسدونك على ما تكونين فيه، أحست رابعه بقرب الله وأيقنت بأن الفرج قريب، وحبب إليها الوقوف بين يدي الله في جنح الظلام متضرعه وكلما توجهت إلى ربها كلما أشرقت الأنوار في قلبها ..
وفي ذات ليله شاهدها سيدها من ثقب صغير وهي ساجده تناجي ربها قائله: إلاهي أنت تعلم أن قلبي يتمنى طاعتك ونور عيني في خدمة عتبتك ولو كان الأمر بيدي ما انقطعت عن مناجاتك وخدمتك ولكنك تركتني تحت رحمة هذا المخلوق من عبادك ..
وذهل الرجل وهو يرى قنديلا معلقا في وسط الحجرة يضئ لها الظلام ..
استيقظ ضميره وأطلق سراحها وخيّرها بين أن تعيش عنده مكرمة تتقلب في ألوان النعيم ويكون لها خادما أو تنطلق إلى حيث تريد، فاختارت أن تعيش حره بعيده عن دنيا الناس .
بعيده عن الناس:
آثرت رابعه أن تعيش في كوخ بعيد عن الناس وكان لمعرفتها بالزاهد رباح بن عمر القيسي أثر كبير في حياتها فقد تعرفت من خلاله على أماكن الذكر ومجالس العلماء فاستمتعت إلى مواعظ شيخ البصره آن ذاك ( عبدالواحد بن زيد ) وتعرفت إلى الزاهده العابده ( حيونه ) فكان لهذا التعايش والتأثر بأهل الله من صلحاء زمانها أثر كبير في صقل روحها وتوجهها بكليتها إلى الله عز وجل .
من عبادتها:
كانت تصلي الليل كله فإذا طلع الفجر نامت في مصلاها نومه خفيفه حتى يسفر الفجر .. فإذا هبت إلى مرقدها قالت: يا نفس كم تنامين يوشك أن تنامي نومه لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور، وكان هذا دأبها حتى لقيت ربها ..
عاشت رابعه بمشاعر فياضه فقد كانت كثيرة الحزن والبكاء ما أن تسمع بذكر النار حتى يغشى عليها زمانا ..
وكان في موضع سجودها ماء من كثرة دموعها .
من عظاتها:
قال رجل لها: سليني حاجتك ؟
فقالت لــه: إني لأستحي أن أسأل الدنيا ممن يملكها فكيف أسألها من لا يملكها !
ومن كلامها في الرياء:
اكتموا حسناتكم كما تكتموا سيئاتكم .
قال رجل لرابعه: إنني أكثر من الذنوب فهل يتوب علي إن تبت ؟
قــــــالت : لا، بل لو تاب عليك لتبت .
( ثـم تـاب عليهـم ليتوبـوا إن الله هـو التـواب الرحيـم )
ويروى أن أحد الصالحين قال عندها: اللهم ارضى عني .
فقالت له : إما تستحي أن تطلب رضا من لست عن براضي .( رضي الله عنهم ورضوا عنه ).
من أشعارها:
تعصـي الإلـه وأنـت تظهـر حبــه
هـذا لعمـري فـي القيـاس شنيــع
لـو كـان حبـك صادقـا لأطعتــــــه
إن المحـب لمـن يحـب مطيــــــع
يروى أن سفيان الثوري قال لها يوما: لكل عقد شرطا ولكل إيمان حقيقه فما حقيقة إيمانك؟
قالـت: ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا لجنته فأكون كالأجير السوء إن خاف عمل، بل عبدته حبه له وشوقا إليه .
غابت رابعه في جلال الله وجماله وتنزهت روحها في حضائر قدسه وهذه كلماتها تنبض وجدا وهياما
إني جعلتك في الفؤاد محدثــي وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانــس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيــس
شوقها إلى لقاء الله:
كانت رابعه تشتاق إلى لحظة الانتقال من هذه الحياة لأنها ستلقى بعدها من يملأ قلبها وروحها، وقد عاشت حتى الثمانين من عمرها تضع أكفانها أمام ناظريها فوق مشجب من قصب فارسي حتى لا يغيب عن بالها أبدا ذكر الموت.
تذكر خادمتها ( عبده بنت أبي شوال ) إنها عندما حضرتها الوفاه قالت لها: يا عبده لا تؤذي أحد بموتي ولفيني في جبتي هذه ( جبه من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون ) وقالت في لحظاتها الأخيرة لمن حولها اخرجوا ودعو الطريق مفتوحه لرسل الله، فخرجوا وأوصدوا الباب فسمعوا صوتها وهي تنطق بالشهادة، فأجائها صوت مسموع ( يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) .
بشارات فيها إشارات:
تقول عبده: رأيت رابعه بعد وفاتها بسنة عليها حله من استبرق خضراء وخمار من سندس أخضر ولم أر شيئا أحسن منه وقالت لها: يارابعه ما فعلت بالجبه التي كفناك فيها والخمار الصوف ؟
قالت : إن نزع عني وأبدلت به هذا ثوباً آخر، وطويت أكفاني وختم عليها ..
ورفعت في عليين .
فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا ؟
قالت: وما هذا عندما رأيت من كرامه الله لأوليائه، فقلت مريني بأمر اتقرب به إلى ا لله ؟
قالت : عليك بكثرة ذكره فيوشك أن تغبطي بذلك في قبرك ..
والله أعلم .
رابعة وكأس المحبه:
رحم الله رابعه التي أحبت الله بكل ذرة في كيانها وسكنت لمراده راضية مطمئنه ..
تنتفظ روحها بين يديه مستغرقة في جلاله مأخودة بجماله ..
لقد عرفت الطريق إلى السعادة الحقيقية وشربت من أصفا كؤوس أهل التصوف ..
أهل الأشواق والأذواق، أهل الإحسان وأهل حقيقه الإيمان، وتركت بصماتها واضحه في فكرهم وشعرهم، وفتحت للمحبين آفاق واسعة يطلون منها على أسرار لا تترجمها الكلمات بل يشعر بها كل من سجد قلبه لله .-
رحم الله رابعه ورضي عنها وجمعنا بها مع إمام المحبين وساقي كؤوس المحبة لأهل الصدق نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
تحياتى