في سفر له مع أصحابه، يأمرهم بالجلوس، ليخلوا بنفسه، فخلا عن ناقته ( القصواء)، ولم تكن تقر لمنافق، فأخذ برأسها رجل مؤمن فقرت له، فقبل رأسها .. يتنحى القائد جانبًا، إلى رسم قبر، يقف متأملاً، فتدمع العين قليلاً، ثم يجلس بهدوء إلى القبر، كما يجلس الطفل إلى جنب أمه، يناجي القبر، يتحدث إليه حديث الصديق لصديقه، كأنما يتحدث عن ذكريات مضت، أفراح وأتراح في طفولة بريئة، ثم يدعو بدعاء يكاد لا يسمعه الأصحاب ( اللهم .... اللهم .... اللهم...).. ويتفجر ينبوع الرحمة، فيبكي بكاءًا .. فيه كثير من الشفقة ! فإذا بالأصحاب يبكون لبكائه ، دون أن يعرفوا من صاحب القبر وما سر البكاء!! فيتقدم أحدهم، هو " عمر " فيسأل : - [بأبي أنت وأمي ] ما الذي أبكاك يا رسول الله ؟ ! فقد أبكيتنا وأفزعتنا! فقال – في شفقة -: " أفزعكم بكائي ؟ .. أفزعكم بكائي؟ " - قالوا : نعم، يا رسول الله ! فأخذ بيد عمر وأقبل على أصحابه ليبين لهم الأمر قائلاً : "إن القبر الذي رأيتموني أناجيه قبر [ أمي ] آمنة بنت وهب ، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي ، ثم استأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد من الرقة ، فذلك الذي أبكاني..ألا وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها ، فإنها تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة »" [ ابن حبان، كتاب الرقائق، باب الأدعية، عن ابن مسعود، برقم ( 986) وصححه الألباني، وقد رواه مسلم مختصرًا ] .
وبين المناجاة، والاستغار، والرقة .. يظل الإنسان في صلة مع قبر الأم ! فهناك، في ظلال قبرها، يرق القلب، وتدمع العين، وتمحص النفس، وتهب الزكريات من مضاجعها. زكريات الطفولة، وليال باتت ساهرة والمرء ينعم بنوم عميق..عاشت للعطاء، جاعت لتطعم ولدها، وتعبت من أجل راحته، تبني النفس، وتشحذ الهمة، وتقوي العزيمة.. في دنيا الحياة، تشرح لك ما أُبهم، وتفسر لك ما أُشكل، تبصرك إلى الأصوب، وترشدك إلى الأصلح .
المناجاة في الأبواء - أو في الخريبة حاليًا – والتي تبعد عن المدينة مسافة 180 كيلو متر -، وفي رحلة العودة من عمرة القضاء في شهر ذي القعدة في السابع من الهجرة – كما رجح صاحب السيرة الحلبية:
يناجيها.. ماذا يقول يقول من وقف موقفه ؟ يحدثها عن سنوات اليتم، كيف تبرم الناس، وكيف تنكر القوم، ولم يكن لغلامها سندًا إلا الله الذي تولاه، ورعاه، ورباه فأحسن تربيته.
ما يتذكره من وقف موقفه ؟ يتذكر وصيتها في هذا المكان وهي في سكرات الموت : " يا محمد كن رجلاً" .. صوتها يخترق عقودًا من الزمان مضت، من نفس المكان الذي وقف فيه غلامها أيام كان طفلاً في سن السادسة، في عمر الزهر، يشارك أم أيمن في دفنها . ها هو الآن يعود وقد بلغ من العمر، تسعة وخمسين سنة، إلى القبر الذي دفن فيه أمه ..
مناجاة القبر، والحديث إلى صاحبه الميت - الحبيب الذي فارقنا - مفيد جدًا للنفس والوجدان، فهذه المناجاة تفرّغ من النفس أثقالها، وتجلي القلب من هموم الدنيا، وتكسر قوالب الأسى والمعاناة التي تتراكم علينا بمرور الوقت .. فمناجاة القبر سُنة مهجورة ، ودواء يجهله الكثيرون . وما أجمل هذه المناجاة عندما تكون مع حبيب أحببناه، كان بيننا،وما غيّبه عنا إلا الموت ! " السلام عليكم دار قوم مؤمنين . أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" كيف حالك أيها الحبيب ؟ جنة وحرير إن شاء الله تعالى؟ أنا بخير ولله الحمد، أصلي وأصل، أصدق وأتصدق ... فلان يسلم عليك ؟ فلان رزقه الله بمولود ؟ ..... ............. ........... وتستمر المناجاة مع صاحب القبر، فتهدء النفس، ويطمئن القلب، وتخرج شحنة من الوجدان كانت يجب أن تخرج..
" الاستغفار " إنها أمي، واستغفاري لها، بر كبير لا يوافي فضلها، لحظات قليلة من الاستغفار لها لا تساوى شيئًا من أشهر تعبت فيها من أجلي . اللهم اغفر لها .. اللهم ارحمها . وما أعظم الاستغفار في رحاب قبرها ! وما أجمل الاستغفار في هذا المكان الذي يذكر الآخرة، الاستغفار له طعم آخر، ولون جديد، أحس فعلاً بمزاقه، أشعر بذونبي فعلاً تتساقط، كما تتساقط أوراق الشجر في ذروة الخريف، أشعر أن استغفاري لها استغفار لنفسي، فكيف الحال إذا ما استغفرتُ لنفسي . كم دعت الله لي في جوف الليل ! وكم طلبت العفو من الله والصفح عما بدر مني ! فإذا لم أذكرها في جل صلاوتي فلا أقل من الاستغفار لها عند قبرها ! وفي ثنايا الاستغفار أتذكر فضائلها في الكتاب والسنة؛ ومن ثم أتحمس وأخشع في الاستغفار : " لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً " [ البقرة : 83] "وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً " [ النساء: 36] "قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً" [ الأنعام : 151] "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندسيدنا محمد صلى الله علية وسلم الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً " [الإسراء23، 24] "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً" [ الأحقاف : 15] " أمك .. أمك .. أمك " أحق الناس بالصحبة والرفقة والمصاحبة .. ولماذا تستغفر لحبيبك أو صديقك أو أخيك الميت ؟ لماذ ؟ لحقه عليك ، وحق الإخوة ! ألم يكن له عليك فضلاً ؟ ألم يزورك يومًا ؟ ألم يخفف عنك ولو بكلمة ؟ ألم يأكل معك ولو أكله ؟ ألم يسلم عليك ؟ ألم يسأل عنك ؟ فأين استغفارك لأناس مضو الرقة "فأخذني ما يأخذ الولد للوالد من الرقة ، فذلك الذي أبكاني". قال أحدهم : فما رؤيت ساعة أكثر باكيا من تلك الساعة.[ ابن كثير 1/236] إنها أمي ، علمتني الرقة والشفقة.. بحنانها : هزت القلب القاسي، وبحنوها : تكسرت قشرة الغفلة، وبتواضعها : سقط رداء الكبر الكاذب، في جوارها تعلمت أغلى دروس " الرقائق"، إنها مَدرسة في تزكية النفوس.. فكيف لا أرق، وكيف لا يتحرك القلب الصديع! ومالي لا أبكي حرقة على فراقها، وحزنًا على مصيرها. جميلة جدًا هذه الرقة التي أحصل عليها بعد زيارة قبرها ! رقة : تضبط مؤشر القلب نحو مزيد العمل الصالح وصناعة المعروف، رقة : تشفي القلب من سقمه، وتقويه من مرضه، رقة : تطرد الشيطان، وتجلب الإخلاص ، وتوقظ لصلاة الفجر، وتفتح الشهية للذكر وقراءة القرآن .
إذا لم يرق قلبك عند زيارة القبور، فمتى يرق القلب؟! إذا لم تتعظ النفس بين أشلاء الموتى فمتى تتعظ النفس ؟ ! إذا لم تزهد بعد الزيارة فمتى تزهد ؟ متى ستتوب ؟ متى ستدمع عينيك ؟ متى ستقدم لغد في آخرتك ؟ متى ستعرف أن الذهب والحديد من التراب وإلى التراب ؟ ومتى ستعرف أن الرئيس والغفير من التراب وإلى التراب ؟
أتيت القبور فناديتها ..... أين المعظم والمحتقرتفانوا جميعاً فما مخبر ....وماتوا جميعاً ومات الخبرفيا سائلي عن أناسٍ مضوا ... أما لك فيما مضى معتبر
أخي ! لا ينقطع عهدك بقبر أخيك، أناشد الله ألا زرت قبور الأحباب في كل أسبوع مرة أو في كل شهر مرة، فإنها تذكر الآخرة، واحرص على تحصيل ثلاثية الزيارة : المناجاة والاستغفار والرقة، ليتمخض عن ذلك عمل صالح تعمله
يتفجر ينبوع الرحمة، فيبكي بكاءًا ...، فيه كثير من الشفقة