عادل محمد زايد
عدد المساهمات : 4107 تاريخ التسجيل : 30/01/2009 العمر : 38 الموقع : المشرف علي المنتدي
| موضوع: حج القلوب بين الشوق والتعلق والرجاء الأحد مارس 08, 2009 9:41 pm | |
| حج القلوب بين الشوق والتعلق والرجاء
[ حج القلوب
بين الشوق إلى اللقاء والتعلق والرجاء
بقلم: محيي الدين حسين يوسف الإسنوي
(1)
شد قومٌ كتب الله تعالى لهم الحج رحالهم للأرض المقدسة، وقد تحقق فيهم أعظم معاني العبودية لله تعالى، قد أجابوا نداء الخليل إبراهيم: (وأذن في الناس بالحج)، وامتثلوا قول الحق: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ).
فخرجوا من بيوتهم إلى ربهم مهاجرين، لأموالهم وأهلهم تاركين، من مخيط ثيابهم ومناصبهم متجردين، أحرموا لله، قد حسرت رؤوسهم، وصفت نفوسهم، وخشعت قلوبهم، وبالدمع سالت عيونهم، ألسنتهم رطبة من ذكر الله، تسبح وتلبي المخلوقات بتسبيحهم وتلبيتهم، فاجتمعوا في يوم الحج الأكبر، يوم المؤتمر الأعظم، يرجون رحمة الله ويخافون عذابه.
يـــا ســائـراً نــحـو الـنـبـي iiمـشـمراً اجهد فديتك في المسير وفي السرى وتـــذرع الـصـبر الـجـميل ولا iiتـكـن فــي مـطـلب الـمـجد الأثـيل iiمـقصرا وتـــوخ آثـــار الـنـبـي فــضـع iiبـهـا مـتـشرفاً خـديـك فــي عـقـر iiالـثـرى واعــلـم بــأنـك مــا رأيــت iiشـبـيهها مـذ كنت في ماضي الزمان ولا iiيرى
(2)
وعلى جانب آخر وقف قوم بين يدي الحق تعالى، لم يكتب لهم المسير إلى هذا الموقف العظيم، هزهم الحب والشوق إلى لقاء الله (والذين آمنوا أشد حباً لله)، كما قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: «فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يُشَوِّقُه إلى أسباب اللقاء لا محالة، هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ما له إلى محبوبه إضافة … والبيت مضاف لله عز وجل، فبالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة، فضلا عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل».
وهذا الحب والشوق المتأجج في القلوب لا تسكن جَذوتُه إلا بمُشَاهَدٍ يوجِّه المحب إليه أشواقَه، ويقضي به حنينه ويذَكِّرُه بالمحبوب سبحانه.
وإذ قد منعهم العذر عن شد رحال الأجساد، توجهت قلوبهم وأرواحهم للقاء محبوبهم، وتعلقت بالبيت والمشاعر، فعظموها كما أمر الله (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)، كلما ذكر لهم البيت والمشاعر حنوا، وكلما تذكروا بعدهم بكوا وأنوا، ويحق لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يقلق، ولمن شاهد السائرين إلى دار الأحبة وهو قاعد أن يحزن، غبطة لمن وصلهم الله لا حسدا، لسان حالهم يقول:
لــلــه در ركــائــب ســــارت بــهــم تطوي القفار الشاسعات على الدجى رحـلوا إلـى الـبيت الحرام وقد iiشجا قـلـب الـمـتيم مـنـهم مــا قــد شـجـا نــزلــوا بــبــاب لا يــخـيـب iiنـزيـلـه وقـلـوبـهم بــيـن الـمـخافة iiوالـرجـا
وألسنتهم تردد قول الشاعر المحب:
يــا راحـلـين إلـى مـنى بـقيادي هـيجتموا يـوم الـرحيل فـؤادي سرتم و سار دليلكم يا وحشتي الشوق أقلقني وصوت iiالحادي
وما أرق وأجمل قول الشاعر:
ألا قـــل لــزوار دار الـحـبيب هـنيئا لـكم في الجنان iiالخلود أفيضوا علينا من الماء فيضا فـنـحن عـطاش وأنـتم iiورود
(3)
والمتخلف لعذر لا شك أنه شريك للسائر في الأجر، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال: (إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر ).
ورحم الله ابن العريف إذ يقول:
شدوا المطىّ، وقد نالوا المنى بمنى وكـلـهـم بـألـيـم الـشـوق قــد iiبـاحـا ســارت ركـائـبهم تـنـدى iiروائـحـها طـيـباً بـما طـاب ذاك الـوفد iiأشـباحا نـسـيم قـبـر الـنـبى الـمصطفى iiلـهم روح إذا شـربـوا مــن ذكــره iiراحـا يـاواصلين إلـى الـمختار مـن iiمـضر زرتـم جـسوماً وزرنـا نـحن أرواحـا إنــا أقـمـنا عـلـى عــذر وعــن قـدر ومــن أقــام عـلى عـذر كـمن iiراحـا
وقال آخر:
يـا سـائرين إلـى الحبيب iiترفقوا فـالـقـلب بــيـن رحـالـكم iiخـلـفته مـالي سـوى قـلبي و فيك iiأذبته مالي سوى دمعي و فيك سكبته
ثم:
هذه الخيف و هاتيك منى فـترفق أيـها الـحادي iiبـنا سـار قـلبي خلف iiأحمالكم غـير أن العذر عاق البدنا
(4)
ولأهل الله تعالى من حج القلوب والأرواح النصيب الأوفر والقدر الأكبر، وربما خرقت العوائد فرآهم الناس، وربما وكل الله تعالى من ملائكته من يحج عنهم، وقد ذكر ذلك في كتب القوم عن كثير من الصالحين، ومن ذلك ما أورده الإمام السيوطي في كتابه (تنوير الحلك في جواز رؤية النبي والملك)، أن بعض تلاميذ الشيخ تاج الدين ابن عطاء رأى الشيخ في الطواف وفي عرفة وسائر المشاهد، فلما رجع إلى القاهرة سأل عن الشيخ فقيل لي: طيب فقلت: هل سافر ؟ قالوا: لا ، فجاء إلى الشيخ فقال له الشيخ: من رأيت؟ فقال: يا سيدي رأيتك، فقال: يا فلان الرجل الكبير يملأ الكون .
وإن قصيدة شيخنا الإمام الرائد رحمه الله تعالى التي سماها (لون من حج القلوب) لتحمل بين طياتها الكثير من الأسرار والأنوار، وذلك أنه حدا به الشوق فسار قلبه مع الركبان، فكان مما قال:
لـلـناس مـوسـم حـج واعـتمار iiتُـقى ومـوسـمي كــل أدهـاري iiوأعـوامي هـــــم يــحـرمـون لأيــــام iiمــقــدرة ومــحــرمٌ أنــــا أوقــاتــي iiوأيــامـي أصـاحب الـركب إن حلوا وإن ظعنوا ســيـراً بـقـلـبي لا ســيـراً iiبـأقـدامـي أغـيـب فــي عَــدَد مــن بـعـده iiمــدد مــقـدس دونـــه عـلـمـي iiوأعـلامـي أطوف بالروح، أو أسعى وأكرع من أمـواه زمـزم، شـأن الـهائم iiالـظامي وأقـبـس الـنـار والأنــوار عـند مـنىً وأشـهد الـغيب فـي وجدي iiوتهيامي وفـــي ربــى عـرفـات لـلـه مـعـرفتي بالله فــي مـشـهدي نـجـوى وإلـهـام وفـــي الــزيـارة لـلـمـختار يـغـمرني مـن سـره فـيض تـكريمي iiوإكـرامي هـنـا مـن الـغيب شـيء لا أبـوح iiبـه حـــقٌ مــن الـحـق لا وهــم iiبـأوهـام وقـــد يــرانـي أحـبـائي هـنـاك iiومــا فــارقـت داري بـعـجـزي أو بـآثـامي مـنـهـم ذهــابٌ وعــود دائــبٌ iiوأنــا مـا بـين روضة طه والحطيم iiمقامي والـروح مـن عـالم الإطلاق أكبر من حـــــد وقــيــد وأزمــــان iiوأحــكــام
ولشيخنا الإمام الرائد رحمه الله – أيضاً – قطعة أدبية رائقة حول حال أهل الشوق عنوانها: (ذكروني فذكرت)، ضمنها أبياتاً للإمام السيد إبراهيم الخليل رضي الله عنه، نقتطف منها قول شيخنا الرائد، عليه سحائب الغفران والرضوان:
(... وما يزال يغلبني الحنين، ويغالبني الأنين، ويقهرني البكاء، حتى لكأن الدموع دماء، فأتعزى بقول السيد الوالد رضي الله عنه:
إن قـصر الـمال أو إن قـصرت iiهـممي أحـــج بــالـروح حــج الـنـاس iiبـالـقدم أطــوف بـالـبيت أو أسـعـى عـلـى iiثـقة فـي مـشهد مـن مـجالي الـغيب مزدحم مــهـيـم فــــي أداء الــنـسـك iiمـجـتـهد تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي يــرانـي الــنـاس طـيـفـاً ثـــم بـيـنـهمو عـلـى مـقـامي فـلـم أحــرم مـن iiالـحرم
ثم ذكروا لي الحبيب المصطفى، ومنازلات أهل الصفا والوفا، والعفو عمن جفا وهفا، ومن كان على شفا، والمدد الممدود بين ما ظهر وما اختفى، والعطاء الموهوب فيما ثبت وما انتفى، فزاد بي الشوق، عن مدى الطوق، وغاب عن التحت والفوق...) إلى آخر ما قال، من كلام أهل الشوق والحال.
(5)
أما بعد، فهؤلاء القوم علموا أن الله تعالى جعل لهم من الأعمال عظيمة الأجر في الأيام العشر، من التسبيح والتكبير والصيام، ما يجعل لهم شبهاً بوفد الله تعالى، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتحميد) رواه أحمد، وأن هذه الأعمال تقوم مقام الحج والعمرة لمن عجز عنهما، بالجزاء لا بالأجزاء (إنما الأعمال بالنيات)، فليست العبرة بأعمال الجوارح فقط، وإنما الاعتبار بلين القلوب وتقواها وتطهيرها من الأدران والآثام!!!.
سفر الدنيا يقطع بسير الأبدان.. وسفر الآخرة يقطع بسير القلوب مع الأبدان.. وليس الشأن أن تقوم الليل صافاً قدميك ثم تصبح مع الركب، لكن الشأن كل الشأن أن تبيت في فراشك ثم تصبح وقد سبقت الركب.
لقد رأى بعض الصالحين الحجيج في وقت خروجهم فوقف يبكي ويقول:
فـقلت: دعوني واتباعي iiركابكم أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد
ثم تنفس وقال: هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت؟!!
يا سائق العيس ترفق و استمع مــنـي و بــلـغ الــسـلام عــنـي عــرض بـذكري عـندهم iiلـعلهم إن ســمـعـوك ســألـوك iiعــنـي
(6)
وفي هذا يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
من فاته هذا العام المقام بعرفة، فليقم بحقه الذي عرفه.
من عجز عن المبيت بمزدلفة، فليبيت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه.
من لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف، فليقم بحق الرجاء والخوف.
من لم يقدر على نحر هديه بمنى، فليذبح هواه هنا، وقد بلغ المنى.
إن حُبستم العام عن الحج فارجعوا إلى جهاد النفوس، أو أُحصرتم عن أداء النسك فأريقوا على تخلفكم من الدموع ما تيسر، فإن إراقة الدماء لازمة للمحصَر، ولا تحلقوا رءوس أديانكم بالذنوب، فإن الذنوب حالقة الدين ليست حالقة الشعر، وقوموا لله باستشعار الرجاء والخوف مقام القيام بأرجاء الخيف والمشعر، ومن كان قد بعد عن حرم الله فلا يبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله، فإن رحمة الله قريب ممن تاب إليه واستغفر، ومن عجز عن حج البيت أو البيت منه بعيد، فليقصد رب البيت، فإنه ممن دعاه ورجاه، أقرب إليه من حبل الوريد.[right] | |
|