السيدة رابعة العدوية بين ألق الشهود وروعة الإستشهاد.
رَابِعَةُ بَيْنَ أَلَقِ الشُّهُودِ وَرَوْعَةِ الاسْتِشْهَادِ
د. محمد جاهين بدوي 08 فبراير 2007
تُعدّ رابعة العدوية ( 185هـ ) أول شخصية تطالعنا في تاريخ شعر الحبّ الصوفيّ رائدةً مؤصلةً لهذا المصطلح على المستويين: الفكريّ والفني، مستعملة إيّاه في غير ما تهيُّبٍ، فلقد ” أدخلت هذا المعنى في التصوّف الإسلامي بالمعنى الحقيقيّ الكامل للحبّ لا مجرد التعبير بالألفاظ عنه تعبيرا ظاهريًّا ” 1
وأبياتها الشعرية الرائدة المعجزة في سياقها، المشهورة النسبة إليها تشهد لها بهذا السبق في استعمال المصطلح وشرحه بصورة توحي بنضج مبكر في تاريخ استعمال هذا المصطلح في المعجم الشعريّ للصوفية، وتلكم هي أبياتها الفاذَّةُ التي تقول فيها:
أُحِبُّكَ حُبَّيْنِ: حُبَّ الهَوَى..
وَحُبًّا لأَنَّكَ أَهْـلٌ لِذَاكَـا.
فَأَمَّا الَّذِي هُوَ حُبُّ الهَوَى..
فَشُغْلِي بِذِكْرِكَ عَمَّنْ سِوَاكَا.
وَأَمَّا الَّذِي أَنْتَ أَهْلٌ لَـهُ..
فَكَشْفُكَ لِلْحُجْبِ حَتَّى أرَاكَا.
فَلاَ الحَمْدُ في ذَا ولاَ ذَاكَ لِي..
وَلَكِنْ لَكَ الحَمْدُ فِي ذَا وَذَاكَا.
ويُورِدُ أبو طالب المكّيّ ( 386هـ ) في كتابه: قوت القلوب في معاملة المحبوب بعد روايته لهذه الأبيات شرحًا ضافيا لها، يُعدّ امتدادًا إبداعيا ورؤيويا لدلالاتها، وتأصيلاً منهجيًّا لما تطرحه من قيمٍ روحية وفلسفية، وما تختزله من تجربةٍ صوفيةٍ سلوكيةٍ شديدة الفرادة والامتياز، فإذا هو ينثر الأبيات على لسان رابعة في نسقٍ فني فريد، وبصرٍ نقديٍّ وتحليليٍّ ثاقبٍ حديد، وإذا هي تقول – وقد تَوَحَّدَ بها أبو طالب وحَلَّتْ فيه - مبينةً عن مرادها بحبّ الهوى:
” إني رأَيتُكَ فأحببتُكَ، عن مشاهدةِ عينِ اليقين، لا عن خبرٍ أو سمعٍ أو تصديقٍ من طريقِ النعم والإحسانِ، فتختلف محبّتي إذ تغيَّرت الأفعالُ لاختلاف ذلكَ عليَّ، ولكنّ محبتي من طريقِ العَيَانِ، فقربتُ منكَ، وهربتُ إليكَ، وانشغلتُ بكَ، وانقطعتُ عمّن سواكَ، وقد كان قبلَ ذلكَ أهواءً متفرّقةً، فلمَّا رأيتُكَ اجتمعتْ كلُّها، فصرتَ أنتَ كُليَّةَ القلبِ، وجُمْلَةَ المحبَّةِ، فأنسيتَنِي ما سواكَ، ثمَّ إني مع ذلك لا أستحقّ على هذا الحبّ، ولا أستأهلُ أن أنظُرَ إليكَ في الآخرةِ، على الكشفِ والعيَانِ، في محلِّ الرضوانِ، لأنّي حبّي لَكَ لا يوجبُ عليك جزاءً عليه، بل يوجِبُ عليَّ كُلُّ شيءٍ لكَ منّي كُلَّ شيءٍ مما لا أطيقُهُ، ولا أقومُ بحقِّكَ فيه أبدًا، إذْ كنتُ قد أحببتُكَ، فلزمني خوفُ التقصير، ووجبَ عليَّ الحياءُ من قِلَّة الوفاءِ، فتفضّلتَ عليَّ بفضلِ كرمِكَ، وما أنتَ لَهُ أهلٌ من تفضُّلِكَ، فَأَرَيْتَنِي وجهَكَ عندَكَ آخرًا، كما أرَيْتَنِيهِِ اليومَ عندي أوَّلاً، فلكَ الحمدُ على ما تفضَّلْتَ به في ذا عندي في الدنيا، ولك الحمدُ على ما تفضّلتَ به في ذاكَ عندكَ في الآخرةِ، ولا حَمْدَ لي في ذا ها هنا، ولا حَمْدَ في ذاكَ هناكَ، إذْ كنتُ إنما وصلتُ إليهما بكَ، فأنتَ المحمودُ فيهما، لأنَّكِ وصلتَنِي بهما ”
2
وأحبّ أن أنبّه ها هنا إلى أمور بالغة الأهمية والخطر في نثر أبي طالب المكي لأبيات رائعة الفاذّة الخلاّقة في سياقها. أولهما: تلك المعيارية الدلالية المبدعة، والاقتصاد التعبيريّ في نثر الرجل لأبيات رابعة الخالدة، وهو الأمر الذي يجعلنا نعيد قراءةَ الرجل ( وكافة آثار القوم شعرا ونثرا ) لا من حيث كونُها نصوصًا تُقَنِّنُ لمذهب، أو تشرح لنظرية ذات خصوصية سلوكية فحسب، وإنما من حيثُ كونُها نصوصا بيانيةً فريدةً في أدبيتها، خلاَّقةً في شعريتها، وثانيها: منهجية أبي طالب في تأويله الفكريّ للأبيات، وتحشيته الفنية عليها، التي تجلّى من خلالها أنه كان معنيا بما حوته الأبياتُ من قيم روحية صوفية مجردة، فهو لم يشرْ إلى ما قد يكون فيها من جمال فني وتصوير شعريّ جاءت تلك المعاني متلبسةً أرديتَه، متغلغلةً في أطره، فلم يكن ذلك من مقاصد المكي المباشرة في تناوله الأبيات، بقدر ما التفت مفتونًا إلى ما طرحته رابعة من خلال أبياتها من صيغةٍ تتصل بمصطلح له فرادته وامتيازه، وما فجرته في أثناء هذا الطرح من تنظير فكري، وتأصيل منهجي لقضية الحب الصوفيّ في ذلك الطور المبكر من تاريخه. وثالثها: روعة رابعة في صوغ تجربتها الروحية بهذا الاقتصاد الخلاَّق في التعابير والتراكيب، وبهذا الزهد الثريّ الخصب، لا في متاع الدنيا وزخرفها الزائل فحسب، وإنما في زخرف اللفظ، وزينة الكلام، ولعب الشعراء وخدعهم البصرية والتصويرية، فجاءت أبياتها معجزةً في وجازتها، ملغزةً في وضوحها، خلاقةً متجددةً في مباشرتها وتقريريتها، وهذا ما يؤكّد لدينا مبدأً فنيا ونقديا غائر الأهمية، وهو أن ما يدركُ بوضوح يُعَبّر عنه بوضوح، من أقصر سبيل، وبأوجز لفظ، وأبسط عبارة، بلا تشدّق أو تفيهق، أو تعمّدٍ لتعمية أو إلغازٍ. ورابعها: خصوصية المشهود، وألق الشهود، وروعة الشاهد والمشهود بعين الودود في تجربة رابعة التي استهلكت فيها ذاتها استهلاكًا حد الاستشهاد، هو عين الوجود، وعين الحق الحقيقة، وروح روح اليقين، فما ثم شاهدٌ ومشهودٌ، وإنما ثمةَ الشهودُ الوجودُ، ثمة لذة الفناء، والبقاء بعد الفناء، والاستشهاد الخلاّق، ورحم الله رابعة أمّ المحبين، وعروسَ أعراس المحبة والنقاء حيث تقول:
كَأسي وخَمْرِي والنَّدِيمُ ثلاثةٌ..
وَأَنا المَشُوقَةُ في المحبَّة رابعةْ.
كَأسُ المَسَرَّةِ والنَّدِيمُ يُدِيرُهَا..
سَاقي المُدَامِ على المَدَى مُتَتَابِعَةْ.
فَإِذَا نَظَرْتُ فَلا أَرَى إلاَّ لَهُ..
وَإِذَا حَضَرْتُ فَلاَ أُرَى إلاَّ مَعَهْ !.
0 0 0
ـ ـ ـ ـ ـ
الهوامش:
1- د. عبد الرحمن بدوي: شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية، مكتبة النهضة المصرية 1962م، ط2، ص 61، ويراجع:د. أبا الوفا التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، دار الثقافة للنشر والتوزيع القاهرة 1983م ط3، ص 89، ومصطفى عبد الرازق: الإسلام والتصوف: دار الشعب القاهرة 1979م ص36
2- أبو طالب المكي: قوت القلوب في معاملة المحبوب، البابي الحلبي 1961م 2 / 114، 115