وذلك أنه عليه أفضل الصلاة والسلام لما رأى المقام مقام اختيار ليعرف الله سبحانه وتعالى جبريل قدر هذا الرجل الذي خرج من صلب من قالت الملائكة فيه (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)
أجاب بهذا الجواب ليوافق ذلك المقام ، فتولاه الله تعالى بأن كلم النار من غير واسطة فقال (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) فتوقفت النار عن إحراقه لا غير ، لأن الله سبحانه وتعالى قال لها (على إبراهيم) فأكلت ما عليه من الحديد وهي القيود والأغلال التي كانت عليه تؤذيه
وهذه معاملة الله تعالى لمن أسلم أمره إليه (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) فإنك إذا توسطت بالعبد ليعطيك شيئاً أو يدفع عنك شيئاً فما ذلك إلا لأحد أمرين : إما أنك ترى أن هذا العبد أكرم من سيده ، أو أن خزائن العبد ملآنة وخزائن السيد معطلة ، أو تعتقد أن العبد أقدر على دفع هذا الامر الذي تريد دفعه عنك من سيده ، أو أ،ه أشفق عليك من سيده أو أعلم بوجودك من سيده ، وهذا غير جائز ، نسأل الله عز وجل العافية من كل بلية
قال الشاذلي رحمه الله عز وجل لما سئل عن الإسلام ، هو الاندماج في طي الأحكام من غير شهوة ولا إرادة ، وقال عمر بن عبد العزيز وهو مريض لما قيل له هل تشتهي شيئاً ؟ فقال ما يقضي الله تعالى
وسئل رضي الله تعالى عنه : عن قوله تعالى (سبحانك ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) قال : ذلك مثل قوله تعالى (سبحان الله عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين)
قال : ذلك مثل قوله تعالى (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) أي إنما وصفوا الله سبحانه وتعالى بغير ما وصف به نفسه فهو منزه عن ذلك (وسلام على المرسلين) لأنهم لا يصفونه سبحانه وتعالى إلا بما وصف به نفسه
وكذلك عباد الله المخلصون ، وهم يعبدون الله بإخلاص المحبة لا لأجل دنيا ولا لأجل أخرى ، فإن الله سبحانه وتعالى قال (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) وهو سبحانه وتعالى يريد الصحبة فكأنه قال : فأين الذين يريدوني
ثم أفراد (الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) وعيس روح الله عليه الصلاة والسلام مر بقوم يعبدون الله تعالى فعبد الله معهم ثم قال : لماذا تعبدون الله سبحانه وتعالى ؟ قالوا : خوفاً من ناره ، فقال : قادر أن ينجيكم منها
ثم رحل عنهم فمر بقوم يعبدون الله تعالى فعبد معهم ، ثم قال لهم لماذا تعبدون الله ؟ قالوا طمعاً في جنته وشوقا إليها ، فقال : قادر على أن يدخلكم الجنة . ثم مر بقوم فوجدهم يعبدون الله سبحانه وتعالى فعبد معهم ثم قال لهم : لماذا تعبدون الله سبحانه وتعالى ؟ قالوا : ابتغاء وجهه ، قال : هذه درجة المقربين وأنا أمرت أن ألازمكم . ثم جلس يعبد الله معهم ، فهؤلاء لا يمكنهم مفارقة الحق سبحانه وتعالى في الدنيا ولا في الآخرة ، فهم في الجنة على هذه الحالة لا يفارقهم تجليه . وسائر أهل الجنة إنما يزورونه في كل ثمان : أي قدرها فينظرون نظرة ينسون بها جميع نعيم الجنة ثم يتلذذون لذة تتنور بها وجوههم ويجدون من الراحة ما لا يخطر على قلب بشر ، ثم يعودون إلى أهليهم فيسرى ذلك التجلي إلى صور أهليهم فيتنورون ويكتسون نورا لم يعهد فيهم من قبل ، ثم لا يزالون متلذذين بنعيمها ما شاء الله ، ثم يجدون لها في أنفسهم شهوة كشهوة الجائع فيؤمرون بالزيارة وهلم جرا
ثم مضى رضي الله تعالى عنه : يخوض في وصف الجنة فقال : أشجار الجنة جذوعها من ذهب ليس كذهب الدنيا ، إذا نظرت في الشمس حين تطلع أو حين تدنو للغروب فهو كذلك ، طول الغصن مسيرة ثمانية أشهر وعشرة أيام ، ظلالها لا من شمس إنما هي أنوار ، إنما يجدون لذلك الظل راحة ، ثم في حركة من حركاتهم وسكنة من سكناتهم يجدون راحة ولذة لا تخطر على قلب بشر ، ففي المشي يجدون لذة وكذا في القيام والاضطجاع لا كما في الدنيا ، لأنك إذا اضطجعت في الدنيا تحصل معك راحة بسبب التعب والنصب ، وفي الجنة إنما أنت تنتقل من لذة إلى لذة في جميع حركاتك وسكناتك ، وإنما يطلق عليه فعل أو قول أو عدم ، فكله راحة ولذة ولا تشبه واحدة واحدة
ثم قال رضي الله تعالى عنه : وسأضرب لكم مثلا : إذا اجتمعت لذات الدنيا جميعها من منكوح من كل الدواب : أي لذة كل فرد ولذة جميع مشموماتها فرداً فرداً ونوعاً نوعاً ، وطعم كل مطعون كذلك ، ولذة كل ملك مال كذلك في ذات واحدة ، فكيف تكون لذة النكاح وقد صارت لذة كل فرد مجتمعة فيه كأنه قد جمعت عنده كل منكوحة حسناء وكيف طعم جميع المطعومات
وقد صارت لذة كل فرد من آدمي وغيره مجتمعة عنده ، وقس عليها سائرها ، ثم إذا انتقلت منها إلى أدنى نعيم الجنة فهو كما تنتقل من طعم حنظل إلى طعم سكر ، ثم لو اجتمعت لذات الجنة : أي كل فرد منها في ذات واحدة من منكوح ومطعوم ومشروب وملبوس وغير ذلك لتجمع لك لذات جميع ما في الجنة
ثم انتقلت من ذلك إلى نظر الحق سبحانه وتعالى فهو كا تنتقل من طعم الحنظل إلى طعم السكر وأهل الله لا يفارقونه في الجنة طرفة عين كما لا يفارقونه في الدنيا طرفة عين
وقال رضي تعالى عنه : قال الله تعالى (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) قدم الشر هنا للاهتمام ، لأنه ربما يكون الشر قائدا لجميع الخيرات أي أن السيئة وأي شر أعظم منها قد تكون سبب القرب من الله تعالى ، وذلك لأنه ربما أورث الذنب ذلا وانكسارا فيكون أعلى من الحسنة وأغلى ، فإن لكل دواء دواء وربما يعتري الإنسان عجب وزهو بالطاعة وذلكم داء ، فتلك سيئة وارتكاب الذنب دواؤها ، فإن بعض الأولياء ارتكب ذنبا فلما تاب منه قال : رب أنت كنت غنياً عن ارتكابي لذلك الذنب ، فقال له : قد كان اعتراك زهو فسلطت عليك ذلك الذنب ليزيله عنك ، فأنت الآن عندي أحب إلى من ذلك
وقال r " لولا أن الذنب خير للمؤمن من العجب ما خلي الله بين عبده المؤمن وبين الذنب أبدا " قال الشاعر في هذا المعنى
تداويت من ليلى بليلى من الهوى
كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
وقال آخر :
انظر إلى بعين قد فتنت بها
وداوني بالتي كانت هي الداء
وقال تعالى (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) وقال سبحانه وتعالى (إن الإنسان لظلوم كفار) أي يكفر الظلم بالتوبة والظلم له معنيان :
الأول : بالنقص قال تعالى (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً)
والثاني : وضع الشئ في غير محله وكلما ظلم كفره بالتوبة ولهذا أتى بصيغة المبالغة ، وفي الحديث قال رسول الله r " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجأ بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم "
وسئل رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل) ما معنى (إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ؟)
فأجاب : إن الجنب لا يقرب الصلاة حتى يغتسل إلا إذا كان عابر سبيل فله أ، يقرب الصلاة بلا غسل ويتيمم ، وعابر السبيل هو أ، يكون في طريق مخوفة إذا اغتسل خشي أن يتأخر عن القافلة
ثم سئل رضي الله تعالى عنه : عن (إذا) الشرطية في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) الآية فقال : يؤخذ منها مفهومان
أحدهما : للوجوب
والآخر : لا للوجوب ، أما الذي للوجوب فهو إذا كان محدثا
وأما الذي لا للوجوب فحيث يكون متوضأ فهو أمر ليس يقتضي الوجوب إنما هو نور على نور والنبي r كان يتوضأ لكل صلاة إلا في جمع حصل له r ، فكان يصلي الصلاتين بوضوء واحد كعرفات ومزدلفة
وقال رضي الله تعالى عنه : قال الله تعالى (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) أي محجوباً ، وذلك أن النبي r كان الله سبحانه وتعالى سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ... الخ ، وذلك أن العبد متميز عن المعبود فلا امتزاج ، وهم يرون العبد ولا يرون المعبود ، لأنه تعالى محجوب عنهم ، وحقيقة النبي r يرونه في حين العبودية لكنهم لا يرونه ، بل بينه وبينهم حجاب مستور فهم يرونه ولا يرونه ، وهذان ضدان لا يفترقان وذلك مثل المرأة ، فإنك ترى صورتك فيها بلا شك وأنت تعلم أنها ليست فيها
كذلك البحران فإن الله سبحانه وتعالى مزجهما وأحدهما ملح والآخر حلو وبينهما برزخ ، وهذا البرزخ ، وهذا البرزخ لا يدرك بل لا يعرف إلا بالذوق فإذا شربت من هذه الجهة وجدته حلوا ، وإذا شربت من هذه الجهة وجدته مالحا
وقال رضي الله تعالى عنه : قال الله سبحانه وتعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) أي إن الصلاة المقبولة وهي الكاملة الجامعة لشروطها بتأدية أركانها تامة وتأمل معاني القرآن فيها والخشوع الذي هو روحها ولا تقوم الذات إلا بالروح ، وفي الصحيح أن قارئ الفاتحة في الصلاة إذا قال : الحمد لله رب العالمين قال الله : حمدني عبدي إلى ... آخره ، وقد تقدم في أثناء هذه الكراريس فهذا ذكر الله للعبد أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر
ثم أخذ رضي الله تعالى عنه في تفسير الفاتحة
قوله تعالى : (الحمد لله رب العالمين) أتى هنا برب العالمين : أي رب جميع عوالم هذا العبد
ولما علم تقصير العبد وعجزه عن الحمد حمد نفسه ، بنفسه ولم يقل ربي لأنه سبحانه وتعالى يحمد نفسه بلسان عبده ، وكل من أراد به خيرا حمد نفسه بلسانه ، فما أعظم هذه المزية لهذا العبد الذي يحمد الله نفسه بلسانه ، وبسبب مروره على لسانه يأجره عليه ويجازيه ويقربه في الدارين وبالنعيم الدائم ، فلله الحمد على الحمد ، لأن الإنسان حال قراءة القرآن نائب عن الله تعالى
قال الله سبحانه وتعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) فأضاف الكلام إلى الله تعالى ، مع أن الناطق به رسول الله r
وقوله تعالى : (الرحمن الرحيم) لما ذكر اسمه جل وعلا ترقب السامع بأي صفة يصف الله نفسه ، ثم استشعر صفة تخويف كالجبار والقهار ، فقال سبحانه : لا خوف عليك لأنه الرحمن الرحيم ، وهما اسمان في أعظم مراتب الرجاء
قال تعالى (مالك يوم الدين) لما ادعى العباد أن لهم ملكا في الدنيا عاملهم بقدرهم ومقتضى جهلهم ، وإلا فهو المالك في الابتداء والانتهاء ، ولم يذكر ملك الدنيا لأنها لا تعدل عنده جناح بعوضة ، فذلك استهانة بها وإظهار لحقارتها ، وفيه تخويف للكافرين وتأمين للمؤمنين : أي أن الله سبحانه وتعالى ملك يوم الدين ، وهو الذي تنزل فيه الشمس بقدر ميل حتى يلجم العرق الناس ، مع هذا يحاسب على مثاقيل الذر
(لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) فالمؤمن يستبشر بذلك ويعلم أن الله سبحانه وتعالى يعلم بخفيات أعماله الحسنة وظواهرها وصلاته تلك وهو فيها يعلم أنها ستعرض ف ذلك اليوم عند من يقول مالك يوم الدين فيزيدها تحسينا ، والكافر يزداد تهديداً وتوعيداً
ثم قال تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك في عبادتنا إياك
(اهدنا الصراط المستقيم) الصراط المستقيم : هو صراط الله : أي الموصل إلى الله بسرعة لأنه لا اعوجاج فيه (وأن هذا صراطي مستقيما) فإذا أحب الله شخصاً كان سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به إلى آخره ، وسلك به صراطه المستقيم ثم صراطه المستقيم هو صراط الذين أنعم الله عليهم
قال تعالى (صراط الذين أنعمت عليهم) وهم الذين أحبهم الله وهداهم إلى الإسلام ، فقد أنعم عليهم بأعظم نعمة ، إذا لو أوجدك في دار كفر ما عرفت إلا ما هم عليه وكان عندك ما هم عليه هو الصراط المستقيم
وقال تعالى (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) المغضوب عليهم فسرهم النبي r بأنهم اليهود ، فهم مغضوب عليهم لأنهم ما عبدوا الله قبل ظهور النبي r إلا بما يطابق أهواءهم ليس لله خالصة ، إذا لو كانوا مخلصين في عبادة الله من قبل لآمنوا بالنبي r ، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم ، وإبليس كان يعبد الله قبل خلق آدم ، لكن لحلاوة يجدها عند العبادة والتذاذ ، فلما أمره الله بالسجود لآدم لم يجد تلك الحلاوة واللذة فأبى واستكبر ، وكان إبعاده ولعنه ، وانقلبت أنواره ظلمة ، وحلاوته مرارة ، وقربة بعدا ، وإمهاله إنما هو في مقابلة ما عبد الله من قبل ، فهو كالخزي لأن الله تعالى لا يضيع عمل عامل ، ولو كان له العقل الوافي لما سأل الإنظار – أي الإمهال – بل لو سأل الموت في تلك الحالة كان عذابه عذاب كافر ولا يعذب عذاب جميع من أطغى
(ولا الضالين) فسرهم النبي r بالنصارى ، لأنهم قصدوا الله سبحانه وتعالى لا من الصراط المستقيم ، بل جعلوه عيسى وجعلوه متحيزا ، فهذا هو الضلال ، كذلك المسلم ربما كان يصلي ولا يبتغي بها وجه الله ، بل يرائي بها أو لأجل شئ غير الله ، فهو في غير صراط الله ، بل هو في صراط المغضوب عليهم ، وإذا عبد الله بغير ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله : فقد سلك صراط الضالين ، اللهم ألهمنا رشدنا
ثم إذا قلت أمين فمعناها اللهم كما هديتنا وأنعمت علينا بالوقوف بين يديك على هذا الوجه الذي شرعه لنا رسولك r فأنت مبتدئ بهذا الإحسان العظيم ، والكريم لا يرجع فيما وهب فأمتنا على هذه النعمة ، حاشاه يختم بالإساءة وهو بالإحسان بادئ ، وهذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها علينا إذا شكرناه عليها زادنا منها
قال الله تعالى (لئن شكرتم لأزيدنكم) فإنه أقدرنا على الصلاة بأن خلق لنا أعضاء يمكننا بها إتمام أركانها فشكرها أن نستعملها فيما خلقت له ، ثم هدانا إلى الإسلام الذي هو النعمة العظمى فشكره أن نؤدي ما وضع له ، ثم شرع لنا الصلاة التي هي عماد الإسلام فشكرها أن نؤديها على الوجه المشروع في كل يوم ، والجميع في زيادة إلى مالا نهاية له يزيدك في كل نعمة من جنسها والحمد لله رب العالمين
وقال رضي الله تعالى عنه : قال الله سبحانه وتعالى عنه : قال الله سبحانه وتعالى (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) والعبد مفتقر إلى سيده بقدر مطالبه فلا شئ في الدنيا إلا والإنسان محتاج إليه لا تستقيم حياته إلا به ، أو شئ العافية أنت مفتقر إليه سبحانه وتعالى في إعطائه إياك العافية ثم إذا صرت في عافية فأنت تحتاج إلى كل ما تستدعيه العافية من منكوح ومطعوم ومشروب وملبوس ومحتاج إلى ذوق تأكل به المأكول وتشرب به المشروب ، وإلى شم تشم به المشموم ، وسمع تسمع به المسموع
وغير ذلك من جميع الجوارح والأعضاء ومحتاج إلى شمس وقمر ونجوم وسماء ومطر ونبات ودواب وأنعام وبر وبحر ، بل إلى جميع ما في السماوات وما في الأرض التي هي مسخرات له ، فهو في جميع ذلك مفتقر إلى ربه تعالى ، ثم افتقاره في الآخرة إليه أعظم من افتقاره إليه في الدنيا لأنه حاجته في الآخرة أكثر وبقدر الحاجات يكون الافتقار
وقال رضي الله تعالى عنه : قال الله تعالى (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)
فقوله (فظن أن لن نقدر عليه) أي نضيق عليه ، كقوله تعالى (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه) أي ضيق عليه رزقه ، وقوله تعالى (يبسط الرزق لمن شاء من عباده ويقدر) لأنه لا يظن أحد أن الله لا يقدر عليه ، فما ظنك بالنبي r
ثم لما ظن هذا الظن ضيقنا عليه في ظلمات ثلاث لأنه أوقف الرحمة عليه ولم يطلقها عليه وعلى قومه ، فضيقنا عليه ووسعنا على قومه ، قال تعالى (إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) فهم ممتعون باقون في الحياة
ولكن هذا التضييق من الحق تعالى لنبيه يونس عليه الصلاة والسلام هو عين التوسيع لأنه تأديب ، وأي توسيع أعظم من تأديب المولى لعبده وبه الفوز والفلاح والنجاة
وقال رضي الله تعالى عنه : النكتة في إيراد قصة الهدهد في سورة النمل قول سليمان عليه الصلاة والسلام (يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين) فقوله : أوتينا من كل شئ ، فيه نوع زهو ونزر يسير من رائحة فخر خفي ، فأجرى الله سبحانه وتعالى على لسان الهدهد (أحطت بما لم تحط به) تأديباً له عليه الصلاة والسلام بهذا التبكيت
ثم أنطق الله سبحانه وتعالى الهدهد بقوله (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون) هذا فأخرج الله سبحانه وتعالى الخبء الذي كان في طي سليمان عليه الصلاة والسلام بقصة الهدهد
وأتى من صفات الحق تبارك وتعالى بقوله (الذي يخرج الخبء) ولما تأدب عليه الصلاة والسلام بآداب الحق جل وعلا قال لما رأى عرش بلقيس عنده قبل أن يرتد إليه طرفه ، وهذا الحد لا يتعذر دونه أبدا (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أو أكفر)
وأراد أيضاً أن يؤدب بقوله هذا : أي قوله (ليبلوني أأشكر أم أكفر) أصف لئلا يستفزه شئ من الشيطان لأنه قال (آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) فهو عليه الصلاة والسلام أضاف العبارات ، فسبحان الله العظيم ، ما أبلغ هذا الكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
وقال رضي الله تعالى عنه : قال الله تعالى (ففروا إلى الله) فأطلق المفرور منه وقيد المفرور إليه . أي ففروا فراراً مطلقاً من كل شئ إلى الله ، حتى إنه بلغ الحال بأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما قيل له نأتي لك بطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني ، ففر من ألمه إلى الله سبحانه وتعالى . فإذا أهمك أمر فر منه إليه سبحانه وتعالى ، فإذا سلط عليك مثلا عدو فإن قابلته بالحول والحيل والعدد وجعلتها مجردة للمدافعة فقد فررت من الله لأنه هو الذي سلط عليك ذلك العدو إلى ما معك من الجند والمال ، نسألك اللهم عافيتك ، وإن جعلتها إنما هي أسباب وليطمئن بها القلب
قال الله سبحانه : (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) مع كونك معتقدا اعتقادا تاما أن النصر من عند الله وخرجت لقتال عدوك وأنت واثق بالله لا أنك معتمد على جندك أبدا ، قد فررت من العدو إلى الله تعالى
كذلك الفقر إذا ابتلاك به ، فإن فررت منه إلى قصد مخلوق أو حرفة فقد فررت من الله إلى من قصد منافعه ، وإن فررت منه إلى الله وسلكت معنى دعاء رسول الله " لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك " كنت فارا من الفقر إلى الله سبحانه وتعالى ، فإن بعض أهل الحرف من الصالحين حدثته نفسه في بعض الأيام وهو شات – أي من أيام الشتاء – شديد البرد إن لم تداوم على حرفتك فمن أين تأكل ، فحلف أن لا يطعمها مما كسب من تلك الحرفة شيئاً إنما أبقى فيها لقضاء حوائج الناس منها ، فهذا معنى قوله تعالى (ففروا إلى الله)
والحمد لله أولاً وآخراً