من دروس سيدى احمد بن ادريس...هاام جدا
وفي الحديث ما معناه : إن الله لا يعذب مسلماً تسمى باسم نبي كرامة له من حيث اتحاد الاسم ، ولا يعذب الله سبحانه وتعالى من تسمى مؤمنا يقول : أنا المؤمن وقد سميتكم المؤمنين فقد وافق أسمكم أسمى فادخلوا في رحمتي ، وهذا أعظم الرجاء ، ثم قال : واجعل الخوف في معادلته فإنه ليس للتسويف هنا مسلك ، بل الرجاء يكون أكثر من الخوف لأنه ورد أن المحتضر للموت إذا كان عنده أحد فليذكره بالرجاء وسعة الرحمة
كذلك الإنسان فإنه في كل حالة محتضر (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) فليس للتسويف هنا مدخل (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) ومن هنا يتولد التسويف ، يعني من طول الأمل وهو استبعاد الآخرة لا من الرجاء
قيل لرجل صالح علمني فقال : أجمع لك التوراة والزبور والإنجيل والفرقان في ثلاث كلمات : أن تخاف الله تعالى خوفاً لا يكون شئ أخوف عندك منه ، وترجوه رجاء أشد من خوفك منه ، وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وفي الحديث " أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء "
وسئل رضي الله تعالى عنه عن قول الله سبحانه وتعالى (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك) من هو الظان هنا ؟
فأجاب : بأن الظان هو الرجل لا يوسف ؛ لأنه لا يجوز الظن على يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه أوحى إليه الحق سبحانه وتعالى بتأويل الرؤيا ، والظن لا يغني من الحق شيئاً " وإياكم والظن فإنه أكذب الحديث " فكيف يظن يوسف فيما أوحى إليه ربه سبحانه وتعالى
وقد غلط المفسرون في قول الله تعالى (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) أن الظن هنا في موضع العلم وليس كذلك ، بل الظن هنا في محله ، والمراد أنهم يظنون في صلواتهم تلك أنهم ملاقوا ربهم فيصلون صلاة مودع ، وهذه حالة الزمن أنه في كل حالة يترقب الموت
وقال رضي الله تعالى عنه في تفسير قوله تعالى (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) رحلة الشتاء والصيف هي إتيان الحجيج إليهم : أي قريش في الشتاء إن كان الحج شتاء ، أو في الصيف إن كان وقت الحج في الصيف لأنهم يقبلون إليهم من كل فج عميق ، ويقتحمون الأخطار والمشاق ، يأتون بأرزاق أهل مكة (يجتبي إليه ثمرات كل شئ)
وهذه المنة العظيمة عليهم ، أي غيرهم يسعى إليهم برزقهم مع مشقة عليه وأي مشقة ، يقاسون من الشدة والتعب والبرد إن كان الحج في الشتاء ، ومن ذة الحر إن كان الحج في الصيف ، وهم ماكثون قاطنون في أوطانهم كما تراهم الآن
(فليعبدوا رب هذا البيت) الذي هو السبب في ذلك
(الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) لا كما ذكر المفسرون من أنها رحلة اليمن والشام يرحل إليها اهل مكة وهم قريش ، لأن الله سبحانه أراد أن يظهر لهم النعمة التي هم فيها
وأما إذا سافروا بأنفسهم فهم كغيرهم من الناس ، بل يحمل إليهم من محاسن جميع الأرض وهم مقيمون في أوطانهم يأتيهم بها غيرهم ، وهذه هي النعمة العظيمة التي لا نعمة فوقها
وسئل رضي الله تعالى عنه : عن قوله تعالى (أولم يكن لهم آية أن علمه علماء بني إسرائيل ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين)
فقال : الضمير في يعلمه يعود إلى النبي r ، والعلماء منهم هم الذين آمنوا بنبينا سيدنا محمد r ، وأما الذين لم يؤمنوا به فليسوا بعلماء بل هم أجهل الجهال ، حتى إنه لما نزل قوله تعالى (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) قال بعض من أمن بنبينا وهو عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه ، بعد أن آمن بالنبي r : والله إنا لنعرفه أعظم من معرفتنا لأبنائنا ، لأن أبناءنا قد تخوننا أمهاتهم . فهذه آية لمن كفر وأي أية
وذلك أن علماء بني إسرائيل آمنوا به لما علموا أنه رسول الله خاتم النبيين نبي الساعة ، والموصوف عندهم في التوراة والإنجيل كما قال تعالى (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) أي أن مثل كل منهم في التوراة والإنجيل ، وكما ثبت أن آدم سأل ربه أ، يريه صور بنيه : أي الرسل منهم ، فأراه صورهم ، فصورهم آدم وجعلهم في خزانة
فلما وصل ذو القرنين سرنديب أخرج تلك الصور ليجعل لكل نبي تمثالاً ففعل ذلك ، ثم إن نفرا من المسلمين رحلوا إلى هرقل فهللوا حتى تحرك البنيان وغلق الأبواب ، فقال لهم هرقل : أهكذا يكون في بلادكم ؟ قالوا : لا ، وإنما وقع هنا لشئ يعلمه الله ، فقال هرقل : ما أحسن الصدق ، فسألهم عن النبي r فأخبروه ، فعمد إلى الصندوق وجعل يخرج صورا ويقول عند كل صورة : أهذه صورته ؟ وهم يقولون لا ، فلما وافق صورة من الصور قال ك هذا نبي الساعة وشأنه هذا ثابت إلى يوم القيامة
فهذا يدل على أن النبي r وأصحابه أمثالاً عندهم في التوراة والإنجيل حتى لا يشكوا في معرفتهم ، فهم معروفون عندهم بالصفات والذوات فهماً ورؤية ، ولما رأوه بتلك الصفة التي فهموها ورأوها آمنوا به وهم على يقين لا يشكون بل أوضح من الشمس ، فهذه آية لمن كفر
وقوله (ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم) أي القرآن (ما كانوا به مؤمنين) أي أنهم يعرفون أن النبي r من حين ولادته بينهم لم يجالس شاعراً ولا كاهنا ولا أحدا من بني إسرائيل ، فيقولون : تعلم شعرا أو سحرا أو أخبره بنو إسرائيل بسبب مجالسته لهم ، بل يعرفونه فيهم أميا لا يفارقهم ، فلما أقيمت عليهم الحجة لم يؤمنوا به
قال الله تعالى : (ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم) بلسان فصيح (ما كانوا به مؤمنين) وذلك مثل قوله تعالى (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا) (ومن يضلل الله فما له من هاد)
وسئل رضي الله تعالى عنه عن القاتل هل له توبة ؟ قال : نعم ، قال الله تعالى (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) فيبدل قتله ذلك كأنما قتل كافرا في سبيل الله ، وعبادته لغير الله كأنما عبد الله في تلك المدة ، وزناه كأنه نكح أهله ، وكذلك ما رواه البخاري وغيره فيمن قتل تسعة وتسعين نفسا وحبرا ، وقتل البحر من أعظم البلاء
وروي أنه بعد أن قتل سبعة وتسعين سأل حبرا ، فقال : لا توبة لك فقتله ، ثم ثانياً ثم ثالثاً حتى كملوا مائة ، فأتى حبرا عارفا بحقائق الأمور فسأله ، فقال : وما يمنعك من باب التوبة ؟ فقال : وكيف أصنع ؟ قال : اذهب إلى قرية كذا فإن فيها رجالا يعبدون الله تعالى فائتهم واعبد الله فيهم حتى يأتيك اليقين ، ففعل
فلما وصل نصف الطريق قبض الله تعالى روحه ، فابتدرته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فاختصموا ، فجاءهم ملك فحكم بينهم أن يقيسوا مسافة الأرض من حيث سافر في التوبة وإلى المحل الذي يريده ، فإن كانت مسافة السير من حيث تاب إلى هناك أكثر كان لملائكة الرحمة ، فأمر الله تلك المسافة أن تمتد فامتدت ، والأخرى أن تنزوي فانزوت حتى كانت التي سافرها أكثر فخطفته ملائكة الرحمة
وهذا الرجل من بني إسرائيل مع أن الله سبحانه وتعالى كتب عليهم (أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)
فهو كمن قتل الناس جميعا مائة مرة ، فما ظنك بمن كان من هذه الأمة وقد رفع عنهم إصرهم وبقي لهم الخير ممن سبق الأمم قبلهم ، فمن قتل منهم نفسا فما قتل إلا إياها لا يكون كمن قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ، فهو بالتوبة أحق وأجدر
وأما ما قاله ابن عباس : لا توبة لك . فذلك رجل كان يقتل ثم يتوب فقال : هل لي من توبة ؟ فقال له : لا توبة لك لأن نيته أن يقتل ثم يتوب لأن ذلك إصرار ، وأما من فعل الذنب ثم بعد أن فعله تاب وندم وإنما غلبه هواه والشيطان وحكم عليه القدر ، فتلك توبة مقبولة لا محالة
ومن ثم كان من الزجر الوارد في الكتاب أو في السنة يبقى على حاله كقوله r " سبعة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : الناكح يده ، والزاني بحليلة جاره ، والضارب والديه حتى يستغيثا ، والمؤذي جيرانه حتى يعلنوه ، ومدمن الخمر ، والفاعل والمفعول به إلا أن يتوبوا" وأمثال ذلك ، لأن معاملة الله سبحانه وتعالى لعبده يوم القيامة على مقتضى حكمته ، كذلك هذا الرجل الذي من بني إسرائيل قاتل المائة ، من ذا يعلم أن مثله يتاب عليه إذا قتل ؟
وقد ورد في حديث أنه يخرج رجل من النار بعد كذا أعواما واسمه هناد وهو مقطوع بخروجه من النار إلى الجنة ، فأي مزية أعظم من هذه ، وفي حديث آخر " أنه توزن أعمال رجل فتستوى الحسنات والسيئات فيقال له : لو زادت حسنة لرجحت ودخلت الجنة ، فامض إلى الناس فالتمس منهم حسنة ، فيمضي على أناس لهم حسنات كالجبال ، فيستعطيهم حسنة فلا يرضون ، فيمر برجل له حسنة واحد وسيئات كثيرة ، فيقول له : خذ هذه الحسنة التي معي فإنك أحق بها مني لكونك بها تدخل الجنة ، فيقال له : خذ بيده وادخلا الجنة " وهذا الإيثار عند الله سبحانه وتعالى أمر عظيم
فقال بعض أصحابه : وأنا سمعت أن رجلين انكسرت بهما سفينة فبقي أحدهما على لوح ، فالتفت إلى صاحبة وقال له ألك أهل ؟ قال نعم ، قال فاركب على اللوح فإنك أحق بالبقاء مني لأني ليس لي أهل ، ومنه رجل يأمر الله به إلى النار فيقول رب كيف تذهب رجلا شاب في الإسلام ؟ فيدخله الله تعالى الجنة ، ولو كان دخوله الجنة لشيبه لما دخل النار شائب ولكن معاملات الحق سبحاته وتعالى في ذلك اليوم على مقتضى حكمة الله ، وفيه يحاسب مثاقيل الذر
وسئل رضي الله تعالى عنه : عن قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)
فأجاب : إنه قد غلط في تفسيرها كثيرون بما ذكروا من أنه دس إبليس في النجم : تلك الغرانيق العلي ، وإن شفاعتهن لترتجي ، وهذا لا يحكم به عقل ، ولا يقول به من له أدنى مسكة من قواعد الإيمان ، فلو كان ذلك لحصل شك في جميع الكتاب والسنة ولبطلت الشرائع حيث تمكن إبليس من أن ينطق على لسان رسول الله r ، حاشا وأبعده الله أن يتمكن من ذلك ، ثم إن النبي r إذا اتفق له ذلك فكيف بسورة القصص التي اتفقت للنبيين قبله ، لم يسمع شئ من ذلك في كتاب منزل من الكتب المتقدمة ولا عن بني إسرائيل في حديث من أخبارهم ، ولا عن سلف ولا عن خلف ، ولكن تفسيرها ظاهر لا غبار عليه (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)
وأماني الرسل وبغيتهم أن يؤمن قومهم ، فيلقى الشيطان في أمنيته تلك بأن يفسد عليه قلوبهم فلا يؤمنوا ، بل يقولون حين يدعوهم للإيمان كما قال قوم نوح (ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم) وقوم شعيب (يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد)
ونحو هذا كثير ، فكل نبي يتمنى أن يؤمن قومه فيلقي الشيطان في أمنيته تلك (فسبح الله ما يلقى الشيطان) من قلوب من آمن منهم في قلوبهم (ثم يحكم الله آياته) في قلوبهم (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض)
وذلك ما خيل لهم من أن نوحا بشر مثلهم وما هو عليهم بعزيز ، ومثل تصويره لهم أن تركم لما يعبد آباؤهم لا يكون ، وأنه من المحال (والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم)
فانظر إلى عود الضمائر من قوله سبحانه وتعالى (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به) أي يعلمون أن ما جاءهم به رسولهم هو الحق فيؤمنوا به ، فالذي يلقى الشيطان يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض والذين أوتوا العلم لا يؤثر فيهم ما يلقي الشيطان ، بل يعلمون أن ما جاءهم به رسولهم من الحق فيؤمنوا به
وسئل رضي الله تعالى عنه : عن قوله تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلى من ظلم) وفي قراءة (إلا من ظلم)
فأجاب : إن (إلا) تكون استثنائية وتكون استدراكية ، وفي هذا الموضع يستقيم المعنيان ، فإن كانت استثنائية فالمعنى أن الجهر بالسوء لا يحبه الله إلا من ظلم فلا بأس ، وذلك حيث ينازع الرجل خصمه لولا أنه يجهر بالسوء لما ظهر الحق ، وعلى قراءة (من ظلم) بالفتح يقدر إلا من ظلمه ، وله شواهد من كلام العرب
ولكن الاستدراك أولى بالمقام ، ويكون المعنى لا يحب الله الجهر بالسوء لكن من ظلم فلا يحث الله الجهر بالسوء منه ، بل العفو أولى به وهو الذي يحبه الله منه (وأن تعفوا أقرب للتقوى) ولا يكون العفو ممن ظلم إلا لمن نور الله بصيرته وهي درجة عظيمة فإن من فعل شيئا بالعبيد لاجل مولاهم فحق عليه أن يعامله بما عاملهم
وقال رضي الله تعالى عنه : قال الله سبحانه وتعالى (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون)
أي أخرج سبحانه وتعالى النخلة من النواة ، فالنخلة وهي حية تنمو أخرجها من النواة الميتة التي لا تنمو ثم أخرج من النخلة الحية التي تنمو التمرة الميتة التي لا تنمو ، كذلك الحبة وكذلك الإنسان ، فإنه تعالى أخرج هذا الحي الذي يقوى ، ويتحرك وخلق فيه العقل الذي عليه المدار من الميت وهو المنى
ثم أخرج من الحي الذي هو الإنسان الميت الذي هو المنى ، ثم يعلم جل جلاله ما تغيض الأرحام وما تزداد ، والعلم في حقه هو بمعنى البصر فيعلم المعدوم كما يعلم الموجود ، ويبصر المعدم كما يبصر الموجود ، فإن هذه النواة والنطفة والحية من ذلك (وما تزداد) : أي ما يتخلق فيها ، والتي تتخلق يعلم كم منها إلى يوم القيامة (ويعلم مستقرها) أي ما يستقر منها
يفسره قوله (فجعلناه في قرار مكين) (ومستودعها) وهو الذي يزلق عن الرحم إذا قضى أجله ، وهو إما نطفة أو مضغة ، وذلك من أول مني خرج وهو من آدم عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة ، والعلم في حقه تعالى بصر
قال تعالى (بكل شئ عليم – بكل شئ بصير – بما تعملون بصير – بما تعملون عليم) فمتعلقهما واحد ؛ ثم إنه تعالى يعلم الشجرة التي في بطن النواة ، ثم ما يخرج من الشجرة من تمر ، فربما يكون في كل سنة وسق أو وسقان مدة عشرين أو ثلاثين سنة يعلم عدد هذه التمرات وهي في بطن تلك النواة إلى منتهاها ثم ما يغرس منها فتنمو منها نخلة ثالثة ثم رابعة إلى يوم القيامة ، وما لم يغرس بل يلقى ، كل ذلك يعلمه في بطن هذه النواة الواحدة ، وعلمه تعالى بمعنى البصر فهو يرى جميع ذلك حبة حبة وإنساناً إنساناً وهم في العدم ، فسبحان العالم جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره
قال تعالى : (فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم) أتبع فلق الحب والنوى بفلق الإصباح وهو تنفس الصبح ، لما كور الليل على النهار ، وأولجه فيه أراد أن يكور النهار على الليل ويولجه فيه ، ففلق الإصباح كما يفلق إهاب الشاة إذا أريد سلخها (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار)
وقد يشم بعض الناس لتنفس الإصباح رائحة كما يتنفس الإنسان فتخرج رائحة فمه (وجعل الليل سكنا) أي يسكنون فيه من حركات النصب والتعب (والشمس والقمر حسبانا) أي يعرفون بهما الحساب ولا يخفى ما فيهما من منافع لا تحصيها الأقلام (ذلك تقدير العزيز العليم)
(وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) أي فلا ينبغي أن يستنبط منها غير ما خلقت له كما يستنبط المنجمون من القرانات وغيرها ، لأن الشئ لا ينبغي أن يستعمل إلا فيما خلق له ، ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى خلق الثوم وجعله دواء لعلل كثيرة فهو خلق له ثم بسبب أكله تتأذى الملائكة ، حتى إنها إذا كانت رائحة الفم منتنة تختطف ما نطق به اللسان من خير من الهواء ، وإذا كانت الراحة طيبة ابتدرت لأخذه من داخل الفم ، لكن لما كان خلقه لمنفعتنا لم يضر تأذي الملائكة به ولم يحرم علينا ، بل هو جار فيما خلق له ، كذلك النجوم خلق لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر فلا نتعدى ذلك
(قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون) (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) أي منها ما يستقر في الأرحام ومنها ما يزلق منها ولا يتخلق بل يبتدره أجله ، وذلك معنى قوله تعالى (مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى) وذلك لأن العرب تسمى الخيل المحفوظة المربوطة التي يأتون إليها بعلفها ومائها مستقرة ، ويسمون ما أرسلوها ترعى وتسقى بنفسها مستودعة (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا)
هذا في مقابلة قوله تعالى (يخرج الحي من الميت) (نخرج منه حبا متراكبا) هذا في مقابلة قوله تعالى (يخرج الميت من الحي) ومن النخل من طلعها قنوان دانية) وهذا أمثلة ، إنما ذكر تعالى الحب أولا في مقابلة قوله (فالق الحب) (ومن النخل من طلعها قنوان دانية) في مقابلة قوله (والنوى) والدانية : هي ما سهلت على الإنسان أسبابها وإن كانت النخلة عالية لكنها باعتبار ما خلق الله سبحانه وتعالى للإنسان من الأيدي والأرجل دانية لأنه يلصق بها ثم يصعد فيها فيجني ثمرها (وجنات من أعناب) أخرجها من ميت كذلك (والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه) أي وجميع ما ذكر متشابه وغير متشابه
فقد تكون الحبة الواحدة من العنب نصفها أسود ونصفها أبيض أو أحمر ، وكذلك التمر ، وكذلك الرمان قد تكون الحبة الواحدة ذات لونين ، ثم لظاهر كل حبة لون ولباطنها لون سبحانه وتعالى
وقال رضي الله تعالى عنه لما سئل : ما هي الكلمة في قوله تعالى : (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)
فأجاب إنها قول الحق له " أسلم " ، ولأنه تعالى ربما كلم الأبناء وأراد بذلك الآباء مثل قوله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) وربما كلم الآباء وأراد الأبناء مثل قوله تعالى (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيمنا آتاهما فتعالى الله عما يشركون) المكلم آدم والمراد أولاده
وقد غلط بعض المفسرين بأن قالوا هو آدم لأنه سمى عبد الحارث وهذا باطل من وجهين :
أحدهما : أنه لا يستقيم هذا على قراءة (شركاء) لأنه سماه إذا فرضنا عبد الحارث وهو شريك واحد لا شركاء
الثاني : أن آدم يعتذر يوم القيامة إذا قصد للشفاعة بذنبه الذي أخره من الجنة ولو كان ذلك لكان أهم وأعظم أن يعتذر به يوم القيامة ، والقرينة التي دلت على أنهم أولاده عود الضمائر للفظ الجمعية (فتعالى الله عما يشركون أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون) إلى آخر الآيات
وهذه الكلمة التي جعلها كلمة باقية في عقبه هي التي وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ، وليست الإسلام الذي هو نقيض الكفر ، كيف وهو الخليل ؟ إنما هو إسلام الأمر إلى الله سبحانه والاستسلام له ، كما أنه عليه أفضل الصلاة والسالم لما ألقى في النار قال الله سبحانه وتعالى لجبريل : أنزل على إبراهيم وائتمر له ، فنزل إليه وهو يهوى في الهواء وقال له : ألك حاجة ؟ فإن الله سبحانه قد أمرني أن أأتمر لأمرك ، فقال أما إليك فلا ، فقال : سل ربط ، قال : عله بحالي يغني عن سؤالي