الداعية:زينب الغزالي
كأن روحها تشربت حب الله ورسوله فوهبت نفسها للدعوة، وأفنت حياتها في خدمة الإسلام والمسلمين حتى أمضت أكثر من نصف قرن في العمل الدعوي، وأفنت عمرها بين الدراسة والعلم والتأليف والقراءة وتفسير القرآن الكريم، ولم يكن يمنعها أي شيء أو ظروف من أن تقوم بدورها في خدمة الإسلام حتى في أصعب لحظات حياتها، سواء المرض أو المحنة الشديدة.. إنها خواطر كثير ة تداعت إلى ذهني عن السيدة المجاهدة زينب الغزالي وأنا في طريقي إلى بيتها..
وكنت قد استأذنت في زيارتها فأذنت لي ابنة أختها الحاجة عائشة والتي تتولى رعايتها الآن، وكم تملكني من الإعجاب بجمال الأثاث والفرش في بيتها وحسن تناسق الألوان وازداد إعجابي بالزهور والورود الجميلة المنتشرة في كل ركن من أركان المنزل وفي حجرتها الخاصة كذلك.
ودهشت من المكتبة الضخمة التي تحوي آلاف الكتب والمجلدات، والتي تضم كتبًا تراثية يزيد عمرها على مئة عام.
لكني للأسف لم أستطع التحدث إلى زينب الغزالي نظرا لحالتها الصحية وأمراض الشيخوخة وضعف الذاكرة الذي أصابها منذ فترة.
لكني كنت أتوق لمعرفة الحكاية المشوقة حكاية هذه السيدة المجاهدة المناضلة التي عاشتها كلها لله -عز وجل- وحده، والتي لاقت فيها من التعذيب خلال فترة عمرها وتحملت وصبرت ولم تجزع خوفًا من التهديد والوعيد، إذ لم تترك عملها الدعوي، بل كانت دائمًا قوية ثابتة عنيدة في إظهار الحق والدفاع عنه، وكانت تؤمن دائمًا أن هذا الطريق وإن كان طويلاً ممتلئاً بالأشواك؛ إلا أنه الطريق الوحيد الذي سيصل بها إلى إرضاء الله -عز وجل- وإلى تحقيق العزة والسيادة للمسلمين.
فكيف كانت البداية وما هي فصول هذه الحكاية تعالوا نقرأها سويًّا..
الداعية المجاهدة
ولدت السيدة زينب الغزالي في الثاني من يناير سنة 1919م الموافق الثامن من ربيع أول سنة 1335هـ وكان والدها من علماء الأزهر الشريف، ولكنه كان أيضًا تاجرًا للقطن، ووالدتها من عائلة كبيرة في قرية (ميت يعيش) مركز (ميت غمر) محافظة (الدقهلية)، توفي والدها في سن مبكرة سنة 1928 م، وكان عمرها آنذاك حوالي أحد عشر عامًا. ترسخ في نفسها الكثير من الصفات التي كان والدها يحرص على أن يغرسها فيها لتكون داعية إسلامية، حيث كان يأخذها والدها لصلاة الفجر ويحثها على أداء الصلوات في أوقاتها، ويقول لها: لا تلعبي مع أقرانك فأنت السيدة زينب، وذلك رغم سنها الصغير؛ فنشأت على هذه المعاني وتطلعت أن تكون بالفعل عند حسن ظن أبيها، وتفوقت في مرحلة التعليم الأساسي، وظهرت موهبتها المبكرة في الخطابة والتواجد وسط التجمعات لإلقاء الكلمات، حتى إنها حاولت أن تتصل بالاتحاد النسائي الذي ترأسه (هدى شعراوي) وأعجبت بها (هدي شعراوي) بدرجة كبيرة حيث اختارتها لتكون عضوًا لمجلس إدارة الاتحاد النسائي رغم أنها كانت في السابعة عشرة من عمرها، مما أثار حفيظة الكثيرات لأن الاتحاد النسائي في ذلك الوقت كان يتكون من سيدات المجتمع ومن علية القوم؛ فكيف لهذه الآنسة الصغيرة أن تكون عضوًا؟ لكن (هدى شعراوي) كانت ترى فيها ما لا تراه الأخريات، وبعد فترة شعرت (زينب الغزالي) أن عملها في الاتحاد النسائي لا يشبع طموحها ولا يحقق ما كانت ترجوه لنفسها من عمل إسلامي، وفي هذه الأثناء تعرضت لحادث إنساني أثَّر عليها فيما بعد، فمن المعروف أنها لم تكن تجيد شؤون البيت والمطبخ وغيرها حيث حرص والدها ألا تشغل نفسها إلا بالعمل الدعوي فقط، لكن والدتها حاولت أن تدربها على أعمال المنزل، فدخلت المطبخ وأشعلت الموقد بشكل خاطئ أدى إلى اشتعال النار فيها وإصابتها بحروق شديدة تركت أثارًا واضحة عليها.
وبعد هذا الحادث أسست جمعية إسلامية هي أول جمعية إسلامية نسائية ربما في مصر والمشرق العربي كله وهي جمعية "السيدات المسلمات"، وكان عمرها في ذلك الوقت حوالي عشرون عامًا، وقد أسستها في ربيع أول سنة 1355هـ الموافق لسنة 1937م وانطلقت من خلالها في مجال الدعوة إلى الله عز وجل.
في تلك الفترة اقتربت من العلماء والدعاة ومن مشايخ الأزهر وأساتذة الشريعة وعلماء الفقه وتتلمذت على أيديهم، وبدأت تدرس العلوم الشرعية في المساجد الشهيرة في القاهرة آنذاك منها: مسجد أحمد بن طولون، ومسجد الإمام الشافعي، والجامع الأزهر، ومسجد السلطان حسن، وغير ذلك من المساجد الشهيرة، وبدأت الجمعية بعد ذلك يكون لها نشاطات مميزة في مجالات مختلفة؛ فأقامت معهدًا للوعظ تتخرج فيه الداعية بعد ستة أشهر وتدرس فيه الفقه والسيرة والحديث وما إلى ذلك من العلوم الشرعية حتى تستطيع أن تعظ في المساجد وبالفعل كانت هناك جهود مثمرة في هذا المجال وأقامت أيضًا دار لليتيمات لرعايتهن ومراعاة شؤونهن، لكن سرعان ما تبدل الحال عندما دخلت جمعية السيدات المسلمات التي ترأسها زينب الغزالي في أزمة مع ثورة يوليو 1952 حيث ضيق عليها وحلت جمعيتها، وأيضًا أغلقت المجلة التي كانت تصدر باسم الجمعية وهي مجلة أسبوعية باسم "مجلة السيدات المسلمات"، وقد أغلقها عبد الناصر وأغلقت الجمعية تمامًا سنة 1964م؛ بل قدمت بعدها للمحاكمة باعتبارها مناهضة للثورة، وحكم بإعدامها سنة 1965 لكن خفف الحكم للأشغال الشاقة المؤبدة قضت منها ست سنوات ثم كتبت كتابها الشهير "أيام من حياتي" حيث سطرت فيه ما لاقته من صنوف التعذيب الشديد الذي لم تعذبه امرأة من قبل.
ثم خرجت بعد ذلك بعفو من الرئيس السادات سنة 1971، وانطلقت في العمل الإسلامي كاتبة ومتحدثة وداعية ومؤلفة، ثم تحركت في الجامعات والمؤتمرات الإسلامية بالخارج وزارت العديد من الدول العربية والإسلامية والغربية، وقد
ألفت زينب الغزالي العديد من الكتب بالإضافة إلى كتاب " أيام من حياتي" منها: كتاب(نحو بعث جديد) وكتاب (إلى ابنتي) جزءان وكتاب (مشكلات الشباب والفتيات في مرحلة المراهقة) أيضا جزءان، وهناك كتاب (الأربعين النبوية) وهو شرح لأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكتاب (ذكريات زينب الغزالي في الدين والحياة)، وهناك مجلدين لتفسير القرآن الكريم صدر الجزء الأول منه والثاني قيد الإعداد، وهو كتاب مع الله وهو أقرب المؤلفات إلى قلبها؛ لأنه يتناول شرح وتفسير آيات القرءان الكريم وتوضيح معانيه.
التمسك بالمنهج
كانت أهدافها في الدعوة واضحة ومحددة وكانت تتوجه للرجل والمرأة معًا، وكانت تطالب الرجل المسلم والمرأة المسلمة بإعادة قراءة القرآن من جديد وإعادة دارسة السنة النبوية من جديد حتى نتفهم المقاصد الأساسية للشرع الحنيف، وتعود الأمة مرة أخرى لسابق عزتها وسيادتها وكانت دائما تحث المجتمع شبابًا وشيوخًا ورجالاً ونساءً على العودة إلى الله سبحانه وتعالى.
وهي تتمتع بشخصية قوية وعنيدة، وعندما توقن أنه الحق من عند الله -عز وجل- لا تفرط فيه أبدًا وتواجه به مهما كان الأثر لذلك، ربما تعرضت لكثير من المتاعب في حياتها لأنها كانت تتمسك بالحق ولأنها لو ضعفت أو حاولت أن تساير المجتمع؛ لربما عاشت حياة مختلفة تمامًا لكنها كانت مقتنعة تمامًا بأن هذا الطريق هو الوحيد الذي يصلها إلى إرضاء الله، وهي قد رأت من قبل رؤيا وهي في السجن فكانت هذه الرؤية بمثابة الزاد الذي يدعمها فقد جاءها من يقول لها أنت على قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فاعتبرت أن هذه تزكية للطريق الذي تسير فيه، وبالتالي واصلت فيه إلى الآن.
وكانت ترى زينب الغزالي أن المرأة المسلمة استردت الكثير من وعيها وأنها الآن أقرب إلى طاعة الله في مجملها، وأن العمل الإسلامي النسائي الآن أصبح أفضل بكثير منه في نصف القرن الأخير، وبالتالي كانت تؤمل في أن تخرج داعيات متحدثات ومذكرات بالله -عز وجل-، وكانت ترى أن هذه الجهود التي بذلت لم تضع هباء فحمل هذه الدعوة آلاف مؤلفة من السيدات والفتيات والجامعيات اللائي أصبحن علامة ظاهرة في المجتمع المصري.
وفي رؤيتها للعمل الدعوي للمرأة وكيف توازن بين مسؤولية البيت والعمل الإسلامي اختلفت ظروف السيدة زينب الغزالي في هذه الجزئية لأنها لم تنجب وتوفي زوجها بعد دخولها السجن؛ فلم تكن لديها أعباء أسريّة ، لكنها كانت تدرك أن المرأة تستطيع في كل مرحلة من مراحل حياتها أن تكيف أداءها وفق ظروفها، بمعنى أن المرأة التي لا تجد وقتًا للخروج والدعوة إلى الله في المساجد ربما يتاح لها أن تكتب، وربما يتاح لها أن تربي أبناءها، وربما يتاح لها أن تزور المرضى أن تدور في محيط جاراتها حتى يتهيأ لها الوقت والظروف المناسبين لأداء دورها؛ لأنه ليس كل امرأة تصلح أن تكون متحدثة وخطيبة، لكن قد يكون لديها بعض الصفات التي تشجع على القرب من الله سبحانه وتعالى.
مكتبتها الخاصة الداعية (زينب الغزالي) تعد مكتبتها من أضخم المكتبات التي يحتويها بيت عالم وفقيه؛ فكانت تملك من كتب التفسير والفقه الكثير، إضافة إلى العلوم الحديثة والكتب الدعوية والحركية. وهناك كتب في المكتبة تزيد عمرها على مئة عام من المؤلفات القديمة.
وكانت تطمح أن تكون أول امرأة تكتب تفسير القرآن، وبالفعل نجحت في ذلك وظهر المجلد الأول منذ أكثر من عشر سنوات واستقبل استقبالاً حسنًا، وكتبت عنه الصحف والمجلات باعتبارها خادمة القرآن الكريم وقدم لها الكثير من الكتاب تعريفات قريبة من هذا المعنى.
البيت الجميل يقول الأستاذ بدر محمد بدر- سكرتير زينب الغزالي مدة 15 عامًا-: الحاجة زينب الغزالي كانت تحرص على الجمال في بيتها؛ فتجد الورود والعطور والمكان الذي يريح النفس؛ فكانت تعتبر أن الداعية يجب أن يكون جميلاً وما حوله يساعده على أداء هذا الدور، وبالتالي كان الصحفيون والصحفيات الغربيين الذين كانوا يذهبون إليها يدهشون من جمال بيتها وجمال الفرش الموجود مع البساطة الواضحة فيه، وبالتالي فهي تعيش في هذا البيت مع الجو المريح للنفس وحول فراشها تنتشر الورود الجميلة.
عاطفة جياشة وكان بيت الداعية زينب الغزالي لا يخلو مطلقًا من الضيوف ومن المحبين الذين يسألونها، وكانت دائمًا لا تتناول غذاءها بمفردها، إذ لابد وأن يكون هناك ضيوف من أماكن متعددة فكان بيتها كأنه واحة يستظل بها الكثيرون وأيضا من صفاتها أن كل ما يتعلق بالإسلام تسعى للعمل فيه مهما كانت مريضة أو متعبة لا تقصر فيه مطلقا فتجد هذه المريضة الضعيفة وكأنها أصح ما يكون وتنسى ما بها من مرض، فإذا ما وجدت نفسها مدعوة لنصرة الإسلام تنسى مرضها وتنطلق لخدمة الدعوة .والآن وحتى وإن كانت ذاكرتها قد ضعفت في بعض الأمور إلا أنها في أمور الدين وما يتعلق بالعقيدة تجد الآيات الصحيحة والأحاديث الصحيحة والذكر الصحيح هو الأصل حتى المعاني وحتى الدعاء مازال قويا عندها.
ولم تكن تشغل ذهنها أبدا بالأمور المادية وكانت تنفق على الكثيرين وعلى الأقارب والمرتادين فكانت تنفق بسخاء متأسية بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام عليه الصلاة والسلام أنه كان ينفق ولا يخشى الفقر.
وعن مرضها الأخير فقد تعرضت خلال السنوات الأخيرة لضعف في الإبصار فأجرت عملية جراحية ولكن يبدو أن هذه العملية قد أثرت على صحتها وأصابتها بشيء من النسيان وضعف الذاكرة وبالتالي توقف عملها الحركي وعكفت على الطاعة والعبادة في بيتها وقللت من لقاءها بجمهورها ومشاركتها في الحياة العامة.
العمل لله فقط
ويختتم الأستاذ بدر محمد بدر حديثة عن الداعية زينب الغزالي؛ فيقول: لقد كان حب الله وحب الرسول وحب الإسلام هو النفس الذي تتنفسه وهو الدم الذي يجري في عروقها، وأشعر أن مصر والعالم الإسلامي ما زال لا يعرف قدر هذه السيدة التي اجتهدت من الصفر وبدأت حياتها دون أن يكون هناك سابقات تقتدي بهم في مجال الدعوة والعمل الإسلامي إلا الصحابيات -رضوان الله عليهن-، لكنها في العصر الحالي هي التي بدأت وهي التي انتشرت دعوتها، وهذا هو ثمرة من ثمار الإخلاص فهو الذي يعطي هذا الدين يعطيه حبًّا في قلوب الناس ويتربع على عرش هذه القلوب المحبة للإسلام.
ولم تعمل لنفسها يومًا قط؛ بل كانت تعمل لله دائما ولذلك أطال الله عمرها وبارك في جهادها الذي استمر أكثر من ستين عامًا في خدمة الإسلام ونفع المسلمين؛ فكانت نعم القدوة للداعية الإسلامية في عصرنا هذا وفي كل العصور