بسم الله وصلى الله وسلّم على النور الأعظم وآله وصحبه
السلام ورحمة الله والبركة
وبعد : المتمعّن في آية " ليس كمثله شيء "
يدرك جملة من الحقائق المصونة العليا :
- منها : أنّ " ليس " من أخوات كان وهي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر والسؤال المطروح : ماهو المبتدأ في هذه الحالة هل هو الشيء او المثل ؟
- ومنها : أنّ الذي لا يشبهه الشيء ولا يمثله من كلّ وجه هو المثل الأعلى وليس الذات القدسية ولذا لم يقل : " ليس كهو شيء " أو ليس كالله شيء" بل قال " ليس كمثله شيء "اي في عالم المثال الذي هو منتهى الصفاء والنّقاء ليس له مثل .
والمتمعّن في أسرار الآية يلاحظ بأنّ قوله تعالى " ليس كمثله شيء " ولم يقل " لا يشبهه شيء " فهناك فرق بين الشبه والمثل فالشبه يجري على المخلوقات لا على الخالق أمّا المثل فقد قال تعالى فيه " ويضرب الله الأمثال للنّاس " وقال تعالى : مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " اي مثل النور وليس حقيقة نوره لذا ورد في الحديث حجابه النور .
ومنها : قوله " كمثله " المقصود به الحقيقة المحمدية التي خلقها الله تعالى في غير مكان ومن غير بداية زمان بل بدأ الزمان منها والمكان أيضا , ومعلوم بأنّ المكان والزمان من جملة المخلوقات وهي من جملة الأشياء وتتناولها آية " ليس كمثله شيء" والسؤال المطروح : هل الحقيقة المحمدية من جملة الأشياء ؟ الجواب : نعم من وجه اذا تعلّق الأمر بمقارنتها بما عليه الذات الالهية ومن وجه لا اذا قارنها العبد بما عليه المخلوقات لأنّها تحت حكمها وتصرّفها فهي البرزخ بين الحقيقتين وهي المقصودة بالمثل الأعلى " وتلك الأمثال نضربها للنّاس لعلّهم يتفكّرون "
- ومنها : أنّ المعادلة العدديّة المستوحات من الحياة الرقميّة في عالم الشهادة أو المعادلة الحرفيّة المستوحاة من الحياة القلميّة في عالم الغيب تعطي هذا : رقم 1 يقابله من الأيام يوم الأحد وعدد 2 يقابله يوم الاثنين وهكذا تعداد الأيّام الا يوم الجمعة الذي يقابله رقم ستّة لم يظهر العدد ظهورا مقابلا له كبقيّة الايّام الاخرى والسبب في ذلك أنّه يوم الجمع لذا فيه خلق آدم وفيه أهبط الى الأرض وفيه تقوم الساعة وفيه وقف النبي صلى الله عليه وسلّم في عرفة في الحجّ وفيه أنزلت آخر آية من القرآن على المشهور الراجح ولذاك أختصّت به هذه الأمّة الشريفة والجمع وقع فيه صلى الله عليه وسلّم من حيث حقيقته المحمّدية لذا أمرنا أن نكثر من الصلاة والسلام عليه فيه وفي هذا اليوم صلى الله صلاته الأزليّة الدائمة وصلّت الملائكة الكرام عليه وأمرنا أن نصلي عليه فيه بصلاة الله عليه فيه لذا قال " من صلى عليّ مرّة واحدة صلى الله عليه بها عشر... الحديث "هذا الأمر من حيث حقيقته المحمدية
أمّا من حيث مرتبته الأحمدية التي أشار اليها عيسى عليه السلام من منطلق حقيقته العيسوية الروحيّة التي لا تعلّق لها بعالم المّادة بقوله " وأبشّركم برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " فهو من أحكام يوم الاثنين المختصّ به وحده صلى الله عليه وسلّم ولذا أشار الى حقيقة هذا الكلام بقوله عن حكمة صوم يوم الاثنين " ذلك يوم ولدت فيه " والولادة المقصودة هي انبثاق فجرتجلّيات الذات الصمديّة بقولها كما في الحديث القدسي " قبض قبضة من نور وجهه وقال لها كوني حبيبي محمدا " فكان بزوغ فجر ولادته يوم الاثنين فجرا فكان عليه الصلاة والسلام أول العابدين بما أنّ الربوبية لا تخلق الا العبيد فكان هو أوّلهم وبما أنّه أول العابدين فقد نال أعلى مقاما في العبودية وهي حقيقته الأحمدية " كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد " لذا أشار لها عيسى عليه السلام وذكرها لتعلّقه بها لذا كان نائبا عنه عليه الصلاة والسلام في أمّته فكان نزوله آخر الزمان متحتّما .
- ومنها : أنّ ابهام الضمير في عدّة آيات من القرآن وقع لحكمة جليلة بل وقعت للسالكين بحسب مراتبهم ولكلّ حقّ حقيقة " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض " فجمعهم في لفظة " الرسل " وجمع بعضهم بضمير جمع الغائب وجمع البعض الثاني في ضمير ثاني غائب وانّما لم يظهرهم بمراتبهم وأخفى مقاماتهم في هذا الوجود لغيبتهم عن أنفسهم ولغيبتهم عن ادراك بعضهم لبعض ولغيبتهم عن ادراك حقيقة الكمال الرباني واطلاقات الذات فهم رجال الغيب من كلّ وجه الى غير ذلك من أحكام هذا الأمر .
- ومنها : أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام أمر بصوم اليوم الذي ولد فيه الذي هو يوم الاثنين لأنّه صلى الله عليه وسلّم في هذا اليوم كان لا تعلّق له بغير مولاه بكلّ وجه ولا يعرف غيره , الرسوم وقتها في هذا المقام لا وجود لها وهذا كان قبل خلق الاكوان من نوره صلى الله عليه وسلّم أما بالنسبة الى يوم الجمعة فقد نهى عن صومه تعريفا لنا للحقائق بل أمرنا أن نكثر من الصلاة والسلام عليه فيه فانّه صلى الله عليه وسلّم سيّد أهل الحقائق على الاطلاق في الأوّلين والآخرين لذا أمرنا الله تعالى باتّباعه والاقتداء به
- ومنها : أن المتعلّق بالحروف والأعداد فقد تعلّق بعلوم الحقيقة المحمديّة التي هي علوم أهل التصريف وهذا كان علم الشيخ الأكبر أو أقول كان الغالب عليه من المعارف
- ومنها : أنّ عدد 1 هو الحقيقة الأحمدية وهي حضرة الجمع التي هي حالة الفناء التام في الله من حيث قوله " ليس كمثله شيء " بما أنّ الله خلقه على صورته لذا أختصّ بالرحمة من اسمه الرحمان فكان رحمة للعالمين كما أنّ الله رب العالمين فاجتمعا في لفظة " العالمين " لذا استوى على العرش الرحمان وكان رحمة من الله مهداة والرحمان اسم ذات لا اسم صفة
- ومنها : أنّ الله تبارك وتعالى لا تدركه الابصار اي الاعداد والحروف التي هي من عالم الحكمة والقدرة , وهو يدرك الأبصار أي يدرك ما عليه التقييد كما أنّ الأبصار لا تدرك ما عليه التنزيه ولذا قال " سبحان الله عمّا يشركون " فجمع الضمير ليتناول الجميع كلّ اهل مقام في مقامهم والقرآن أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلّم .فافهم.
- ومنها : أنّ الأعداد في الطرفين أي السالب والموجب امّا أن تكون زوجيّة وامّا أن تكون فرديّة فلو قلنا مثلا : عدد 1 وطرحنا منه عدد 2 لكانت النتيجة 1- ولو طرحنا منه عدد 3 لكان المجموع 2- وهكذا من الطرفين الى ما لا نهاية فعلى أيّ أساس يمكننا أن نقيّد الذات في الأعداد أو أن تحلّ كما يزعم الزنادقة في الحروف كقولهم حلّ الله في عيسى الذي هو كلمة الله الى مريم وقوله كن فوجب علينا أن ننزّه الله تعالى عن الأعداد والحروف ولا ندخل فيما ليس لنا به علم
- ومنها : أنّ العدم لا يحسن أحد فيه الكلام لأنّه غير موجود ولا أصل ثابت له غير أنّه صفة اعتباريّة من حيث الوجود المطلق للذّات فقولنا " العدم " هو ليس قولنا " لأنّ الله موجود " بل لأنّه لمّا كنّا نحن عدما محضا انجذبت حقائقنا الى أصلها ولمّا كان وجودنا حاولنا ادراك هذا الوجود الممكن الجائز وسببه فكانت دعوانا الوجود ولمّا كان الله واجب الوجود وهو مطلق الذات من حيث تجرّدها عن الاسماء والصفات كان عدمنا متعيّنا علينا فلا بدّ من التحقّق به أزلا وأبدا لمناسبة وجود الله تعالى وأنّه واجب الوجود لذاته وذاته ليست لها بداية ولا نهاية فنحن على هذا المقياس عدما محضا الآن وقبل الآن أي قبل وجودنا وبعد وجودنا الذي لا أؤمن به لأنّ الايمان بالله وحده وكلّ من آمن بوجوده فقد أشرك بالله من حيث هذه الحيثيّة والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك أي من عدم دعوى الوجود
- ومنها : أنّ الذات مطلقة ليس لها قيد البتّة في أيّ حكم من أحكامها ولذا وصل الأمر بالعارفين الى الحيرة ولذا قال لسيّد العابدين " يا أيّها النبيّ اتّق الله " فقد خاطبه في مقام حقيقته الأحمدية المقدّسة بتقوى الله ومن هنا شيّبته صلى الله عليه وسلّم هود وأخواتها وقال : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " وعلى هذا كان الأولى صلى الله عليه وسلّم بهذا البكاء رغم أنّه سيّد ولد آدم ومفتاح الجنّة بيده وصاحب الشفاعة العظمى فهنا فليتأدّب المرء مع الله تعالى وليتمعّن في قوله عليه الصلاة والسلام :" اللهم اني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناءا عليك أنت كما أثنيت على نفسك "
والله أعلم وأحكم