عادل محمد زايد
عدد المساهمات : 4107 تاريخ التسجيل : 30/01/2009 العمر : 38 الموقع : المشرف علي المنتدي
| موضوع: من اجمل القصص هارون الرشيد وولده الزاهد الأربعاء أغسطس 26, 2009 1:44 pm | |
| هارون الرشيد وولده الزاهد قال الشيخ عفيف الدين أبو السعادات اليافعي رحمه الله :
حكي أنه كان لهارون الرشيد ولدٌ قد بلغ من العمر ست عشرة سنة ، وكان قد رافق الزهاد والعُبّاد ، وكان يخرج إلى المقابر ويقول : " قد كنتم قبلنا وقد كنتم تملكون الدنيا فما أراها مُنجيَتكم وقد صِرتم إلى قبوركم ، فيا ليت شعري ما قلتم وما قيل لكم " ؟ ويبكي بكاءً شديداً ، وكان رضي الله عنه ينشد :
تُرَوّعني الجنائزُ كلَ يومٍ *** ويُحزنني بكاءُ النائحاتِ
فلما كان في بعض الأيام مر على أبيه وحوله وزراؤه وكِبار دولته وأهلُ مملكته ، وعليه جُبة صوف وعلى رأسه مئزرُ صوف ، فقال بعضهم لبعض : لقد فضح هذا الولد أميرَ المؤمنين بين الملوك ، فلو عاتبه لعله يرجع عما هو عليه ، قال : فكلمه في ذلك وقال : " يا بني لقد فضحتني بما أنت عليه " ، فنظر إليه ولم يجبه ، ثم نظر إلى طائرٍ وهو على شًُرّافةٍ من شراريفِ القصر ، فقال : " أيها الطائر ، بحق الذي خلقك إلا جئتَ على يدي " ، فانقض الطائر على كف الغلام ، ثم قال له : " ارجع إلى موضعك " ، فرجع إلى موضعه ، فقال : " بحق من خلقك إلا ما سقطتَ في كف أمير المؤمنين " ، فما نزل ، فقال له الغلام : أنت الذي فضحتني بحبّك الدنيا وقد عزمتُ على مفارقتِك . ففارقه ولم يتزود منه بشيءٍ إلا بمصحفٍ وخاتم ، وانحدر إلى البصرة ، وكان يعمل مع الفَعَلَة في الطين ، وكان لا يعمل إلا يوم السبت بدرهمٍ ودانقٍ ، يتقوّتُ كلَ يومٍ دانقاً .
قال أبو عامر البصري : وكان قد وقع في جداري حائط ، فخرجتُ أطلب من يعملُ لي في الحائط ، إذ رأيت غلاماً لم أرَ أحسنَ منه وجهاً ، وبين يديه زِنبيلٌ (1) وهو يقرأ في مصحف ، فقلت : يا غلام أتعمل ؟ فقال : " ولمَ لا أعمل وللعمل خُلِقتُ ؟ ولكن أخبرني في أي الأعمال تستعملني " ؟ فقلت : في الطين ، فقال : بدرهم ودانق وأصلي صلاتي . فقلت : لك ذلك . ثم مضيتُ به إلى العمل وتركته يعمل ، فلما كان المغرب جئته فوجدته قد عمِلَ عمَلَ عشرة رجال ، فوزنت له درهمين ، فقال : يا أبا عامر ما أصنع بهذا ؟ وأبى أن يقبل ، فوزنت له درهماً ودانقاً ، فلما كان الغد خرجت إلى السوق في طلبه فلم أجده فسألت عنه فقيل لي : إنه لا يعمل إلا يوم السبت ولا تراه إلا يوم السبت الثاني . فأخرتُ العمل إلى السبت الثاني ثم أتيتُ السوق فإذا هو على تلك الحال ، فسلمتُ عليه ثم عرضتُ عليه العمل فقال كمقالته الأولى ، فمضيت به إلى العمل ، فوقتُ أنظر إليه من بعيد وهو لا يراني ، فأخذ كفاً من الطين وتركه على الحائط وإذا الحجارة يتركب بعضها على بعض , فقلت : هكذا أولياءُ الله تعالى مُعانون . فلما أراد أن ينصرف وزنت له ثلاثة دراهم ، فأبى أن يقبل إلا درهماً ودانقاً فوزنت له ذلك . فلما كان السبت الثالث جئت إلى السوق فلم أره ، فسألت عنه فقيل لي : له ثلاثة أيام وجِعٌ في خرابٍ يعالج سكرات الموت ، فوهبتُ أجرةً لمن يدلني عليه ، ومشينا حتى وقفنا عليه في خرابٍ بلا باب ، وإذا هو مغشيٌ عليه ، فسلمتُ عليه فلم يرد علي ، وإذا تحت رأسه نصفُ لبنةٍ وهو في حال الموت ، فسلمت عليه ثانيةً فعرفني فأخذتُ رأسه وجعلته في حجري ، فمنعني من ذلك وأنشأ يقول :
يا صاحبي لا تغتـَرِرْ بتنعمٍ *** فالعمرُ ينفدُ والنعيمُ يزولُ وإذا علمتَ بحالِ قـومٍ مرةً *** فاعلم بأنـك عنهمُ مسؤولُ وإذا حملتَ إلى القبورِ جنازةً *** فاعلم بأنك بعدها محمولُ
ثم قال : يا أبا عامر إذا فارقـَت روحي جسدي فغسّلني وكفـّنـّي في جبتي هذه . فقلت : يا حبيبي ولم لا أكفنك في ثيابٍ جديدة ؟ فقال لي : الحي أحوجُ إلى الجديد من الميت ، الثياب تبلى والعملُ يبقى ، وخذ زِنبيلي ومئزري فادفعهما للحفار وخذ هذا المصحف والخاتم وامض بهما إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد ، ولا تدفعهما إلا من يدك إلى يده وقل له : يا أمير المؤمنين معي وديعةٌ من غلامٍ غريب ، وهو يقول لك : لا تموتن على غفلتك هذه ، أو قال : على غِرّتك هذه . ثم خرجت روحه رضي الله تعالى عنه ، فعلمت أنه ولد الخليفة وعملت بجميع ما أوصاني به ، وأخذت المصحف والخاتم ودخلت بغداد وقصدت قصر الخليفة هارون الرشيد ، ووقفتُ على موضعٍ مُشرِفٍ ، فخرج موكبٌ عظيم فيه تقديرُ ألفِ فارسٍ ، ثم تبعه عشرة مواكب في كل موكب ألف فارس ، وخرج أمير المؤمنين في الموكب العاشر فناديتُ : بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أمير المؤمنين إلا ما وقفتَ قليلاً . فلما رءاني ، قلتُ : يا أمير المؤمنين معي وديعة من غلام غريب . ثم دفعتُ إليه المصحفَ والخاتم وقلت له : هذا ما أوصاني به ، فنكّس رأسه وأسبل دمعته ، وأوصى عليّ بعضَ الحُجّاب وقال : ليكن هذا عندك إلى أن أسألك عنه . فلما رجع هو وأصحابه أمر بالستور فرُفِعَت ، ثم قال للحاجب : هات الرجل وإن كان يجدد علي أحزاني . فقال لي الحاجب : يا أبا عامر إن أمير المؤمنين محزونٌ مهمومٌ فإذا أردت أن تكلمه عشر كلماتٍ فاجعلها خمساً ، فقلت : نعم ، ودخلت عليه فإذا مجلسه خالٍ فلما رءاني قال : ادنُ مني يا أبا عامر فدنوت منه فقال : أتعرف ولدي ؟ قلت : نعم . قال : في أي شيءٍ كان يعمل ؟ قلتُ : في الطين والحجارة . قال : أستَعمَلتـَهُ أنت ؟ قلت : نعم فقال : استعملته وله اتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت : المعذرة إلى الله تعالى ثم إليك يا أمير المؤمنين ، فإني ما علمتُ مَن هو إلا عند وفاته . قال : أنت غسّلته بيدك ؟ قلت : نعم . قال : هات يدك فأخذها ووضعها على صدره وهو يقول : بأبي كفٌ غسّلت الغريب ، وبأبي كفٌ كفنت العزيز الغريب . ثم أنشأ يقول :
يا غريباً قلبي عليه يذوبُ *** ولعيني عليه دمعٌ سَكوبُ يا بعيدَ المكان حزني قريبُ *** كدّرَ الموتُ كلَ عيشٍ يطيبُ كان بدراً على قضيبِ لجينٍ *** فهوى البدرُ في الثرى والقضيبُ
قال : ثم تجهّز وخرج إلى البصرة وأنا معه ، حتى انتهى إلى القبر ، فلما رءاه غشي عليه ، فلما أفاق أنشد هذه الأبيات :
يا غائباً لا يؤوبُ من سَفرِهْ *** عاجلـَهُ موتُهُ على صِغَرِهْ يا قرةَ العينِ كنتَ لي أنساً *** في طولِ ليلي نَعَم وفي قِصَرِه شربتَ كأساً أبوك شاربُها *** لا بد مِن شُرْبِها على كِبَرِه أشربُها والأنامُ كلـُهُمُ *** مَن كان مِن بدوِهِ ومِن حَضَرِه فالحمدُ لله لا شريك لهُ *** قد كان هذا القضاءُ مِن قدَرِه
قال أبو عامر : فلما كانت تلك الليلة قضيتُ وِردي واضجعتُ ، وإذا بقبةٍ من نور ، عليها سِجافٌ من نور ، وإذا قد كُشِفَ السِجاف فإذا الغلام ينادي : " يا أبا عامر جزاك الله عني خيراً " فقلت : يا ولدي إلى ماذا صِرتَ ؟ قال : إلى ربٍ كريمٍ ، راضٍ غير غضبان ، أعطاني ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وءالى على نفسه أن لا يخرجَ عبدٌ من الدنيا مثلَ خروجي إلا أكرَمَهُ مثلَ كرامتي . فاستيقظتُ فرحاً به وبما قال لي وبشرني به ، رضي الله عنه .
قلت ( أي اليافعي ) : وقد حُكيَت هذه الحكاية على غير هذه الصفة من طريق ءاخر . قال الراوي : سُئل هارون الرشيد عنه فقال : إنه وُلِد لي قبل أن أبتـَلى بالخلافة ، فنشأ نشئًا حسناً وتعلم القرءان والعلم ، فلما وَلِيتُ الخلافة تركني ولم ينل من دنياي شيئاً ، فدفعتُ إلى أمه هذا الخاتم وهو ياقوتٌ يساوي مالاً كثيراً ، وقلت لها : تدفعين هذا إليه ، وكان بَراً بأمه . رحمة الله تعالى عليه .
ــــــــــــــــــــ
(1) الزبيل والزنبيل : الجراب ، وقيل : الوعاء يُحمل فيه ، وهو القـُفـّة ، اللسان ( زبل ) . | |
|