قصة الريح المسخرة لسيدنا سليمان
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى ءال الحبيب محمد وصحب الحبيب محمد صلاة وسلاما دائمين مستمرّين إلى يوم المحشر
وبعد
بعث الله تعالى سيدَنا سليمانَ عليه السلامُ بالإسلامِ كسائرِ الأنبياءِ ورزقَه النبوَّةَ والمُلْكَ، فكان مُلْكُه واسعًا وسُلْطانُه عظيمًا.
وقد أنعمَ الله عليه بِنِعَمٍ كثيرةٍ كريمةٍ، منها تسخيرُ الجِنِّ والشياطينِ بحيثُ يُطيعونَه وينفِّذونَ أوامرَه، ومنها إسالةُ النُّحاسِ المذَابِ له، وفَهْمُه مَنْطِقَ الطيرِ، وجَعْلُ الريحِ تأخذُه إلى حيثُ شاءَ بإذنِ الله على بِساطٍ عجيبٍ، فما قِصةُ بِساطِ الريحِ هذا؟
حُكِيَ أن الجِنَّ المسخَّرينَ تحتَ إمْرَةِ سيدِنا سليمانَ "عليه السلام" صنعوا له بِساطًا واسعًا جدًّا من خَشَبٍ مُكَلَّلٍ بالذهبِ والحريرِ، بحيثُ إنه يَسَعُ جميعَ ما يحتاجُ إليه من الدُّورِ المبنيّةِ والقصورِ والخِيامِ والأمتعةِ والخيولِ والجِمَالِ والأثقالِ والرجالِ، وغيرِ ذلك من الحيواناتِ والطيورِ، ووُضِعَ له في وَسَطِه مِنْبَرٌ من ذهبٍ يَقْعُدُ عليه وحولَه كراسٍ من ذهبٍ يقعُدُ عليها الأولياءُ وكراسٍ من فضةٍ يقعدُ عليها العلماءُ وحولَهُمُ الناسُ، وحولَ الناسِ الجِنُّ والشياطينُ، والطيرُ تُظِلُّهُ وتحميهِ من أشعةِ الشمسِ.
وكان سَيدُنا سليمانُ "عليه السلامُ" كثيرَ الغزوِ لمحاربةِ الكفارِ ونشرِ الإسلامِ وتعليمِ أنه لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ ولا شبيهَ له، فكان إذا أرادَ سَفرًا أو قتالَ أعداءٍ في أيّ بلدٍ ما، حملَ كلَّ ما يَحتاجُ إليه على هذا البِساطِ وأمرَ ريحًا مخصوصةً جعلَها الله طائعةً ومُنْقَادَةً له، فتدخلُ تحتَه وتَرْفَعُهُ، فإذا صارَ بينَ السماءِ والأرضِ أمرَها أن تكونَ لَيّنَةً كالنسيمِ فتسيرُ به، فإن أرادَها أسرعَ من ذلكَ أمرَ العاصفةَ فحملتْهُ أسرعَ ما يكونُ، فوضعتْه في أيِّ مكانٍ شاءَ بإذنِ اللهِ تعالى.
وكان لهذا البِسَاطِ سُرْعَةُ انتقالٍ كبيرةٌ جدًّا، حيثُ إنه كانَ يقطعُ مسافةَ شهرٍ في وقتٍ قصيرٍ لا يتعدَّى الخمسَ ساعاتٍ.
وكانت مدينةُ "تَدْمُرَ" في بَرِّ الشامِ مستقرَ مُلْكِ سيدِنا سليمانَ "عليه السلامُ" وقد بنَاها له الجِنُّ ـ كما قيلَ ـ من الحجارةِ الضَّخْمةِ العريضةِ والأعمدةِ العاليةِ والرُّخَامِ الأبيضِ والأصفرِ، وقد خرجَ منها سَيّدُنا سليمانُ "عليه السلامُ" ذاتَ يومٍ صباحًا يقصِدُ "إصْطَخْرَ" وهي من أكبرِ مُدُنِ بلادِ فارس، وفيها مسجدٌ يُعرفُ بمسجدِ سليمانَ، وتبعُدُ عن الشامِ مسيرةَ شهرٍ فَوصَل إليها ظُهرًا بعونِ اللهِ تعالى، ثم انطلقَ من المسجدِ بعدَ أن استراحَ إلى "كَابُلَ" في أرضِ خُراسَانَ (أفغانستان حاليًّا) وهي تبعُدُ عن "إصْطَخْرَ" مسيرةَ شهرٍ، فباتَ فيها، ثم عادَ صباحًا إلى "تَدْمُرَ" فوصَلَها ظهرًا.
ومن دلائلِ هذه الرِّحلاتِ التي كان يقومُ بها ما وُجِدَ في منزلٍ قربَ نهرِ "دِجْلة" حيث عُثِرَ على لوحةٍ كَتَبَ فيها أحدُ صحابةِ سيدِنا سليمانَ "عليه السلامُ" إمَّا من الإنْسِ وإما من الجِنِّ ما نصُّه: "نحنُ نزلناهُ وما بنيناهُ، ومبنيًّا وجدناهُ، غَدَوْنا من "إصْطَخْرَ" فَقِلْنَاهُ (وَصَلْنَا ظُهْرًا)، ونحن رائِحون منه إن شاءَ الله تعالى فبائِتُون في الشامِ".
ومما رُوِيَ في تِرْحَالِ سيدِنا سليمانَ "عليه السلام" كذلك أنه رَكِبَ البِساطَ مرةً وسارَ فمرَّ فوقَ فلاحٍ يحرُثُ أرضَه، فنظرَ نحوَه الفلاحُ وقال: "لقد أُوتيَ ءالُ داودَ مُلْكًا عظيمًا"، (وسيدُنا سليمانُ هو ابنُ النبيّ داودَ عليه السلامُ) فَحَمَلَتِ الريحُ كلامَه فألقتْه في أُذُنِ سليمانَ "عليه السلامُ"، فنـزلَ حتى وصلَ إلى الفلاحِ فقال له: "إني سمعتُ قولَك، وإنما مَشَيْتُ إليكَ لئلا تتمنّى ما لا تَقْدِرُ عليه، لَتَسْبيحةٌ واحدةٌ يَقْبَلُها اللهُ منكَ خيرٌ من الدنيا وما فيها"، فقالَ الفلاحُ: "أَذْهَبَ اللّهُ همّسيدنا محمد صلى الله علية وسلم كما أذهبتَ همّي".
وذلك أنَّ نبيَّ الله سليمانَ "عليه السلامُ" لم يكنْ متعلقَ القلبِ بالرَّفَاهيةِ والتنعُّمِ، بل كان زاهداً في الدنيا يأكلُ خُبْزَ الشعيرِ على الرُّغْمِ من سَعَةِ مُلْكِهِ وعِظَمِ ما بين يديهِ من الأموالِ، وكان كلَّ يومٍ يذبَحُ مائةَ ألفِ رأسِ غنمٍ وثلاثينَ ألفَ رأسِ بقرٍ ويطعمُها للناسِ وهو يأكلُ خبزَ الشعيرِ ويأتدِمُ باللبنِ الحامِضِ. وإنما كان يستغلُّ ما أكرمَه الله به لنشرِ الإسلامِ وإظهارِ هيبةِ هذا الدينِ العظيمِ.