فتح الكرامة ، هو ما يظهره الله تعالى على أيدي أوليائه من خرق العادات ، كطي الأرض ، أو المشي على الماء ، أو الطيران في الهواء إلى غير ذلك ، إما تثبيتًا لأنفسهم حيث يتأكدون بأن الطريق الذي يسيرون فيه هو الطريق الصحيح فيجاهدون أنفسهم لحملها على الصبر عليه وعلى مشاقّه ، وإما تثبيتًا لأتْباعهم فيصبرون على السير معهم ، وإما إظهارًا لهم حتى يعرفهم الناس فيتبعوهم ، وقال علماء التوحيد أن الكرامة للولي هي معجزة للنبي الذي يسير على قدمه الولي ، لأنها تثبِِت صدق دعوى النبي .
الإطلاع على بعض الغيب
ومن فتح الكرامة للأولياء أن يُطلِعهم الله على بعض مفردات الغيب لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى ، وأحيانًا يعرّفهم الله الحكمة من ذلك ، وفي القرآن الكريم كثير من الشواهد على ذلك ، ففي قصة الخضر عليه السلام مع سيدنا موسى علي الصلاة والسلام المذكورة في سورة الكهف وجدنا أن الله تعالى أطلع الخضر على كثير من مفردات الغيب حيث أعلمه أن تحت الجدار كنزًا ، وأن الله تعالى أراد أن يُبقي هذا الكنز لصاحبيه الغلاميْن اليتيمين إكرامًا لأبيهما حيث كان أبوهما صالحًا ، ووجدنا أن الله أطلع الخضر على أن غُلامًا سوف يكون عاتيًا على أبويه إذا كبر فقتله الخضر ، وفي نهاية الآيات يقول الخضر ( وما فعلتُه عن أمري ) ، ووجدنا أن الله أطلع الخضر على أن السفينة التي كانت لمساكين يعملون في البحر إذا بقيت على حالها صالحة جميلة فإن الملك الظالم سوف يغتصبها منهم ، فأراد الخضر أن يعيبها حتي لا يطمع فيها هذا الملك ، وفي نهاية الآيات يقول الخضر ( وما فعلته عن أمري ) .
الشاهد في تلك القصة القرآنية أن الله تعالى يمكن أن يُطْلِعَ بعض خلقه على ما شاء من الغيب ، وليس ذلك مختصّا بالأنبياء ، فلم يكن الخضر نبيّا ، وإنما كان كما قال عنه ربّه ( عبْدًا من عبادنا آتيْناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنّا عِلْما ) 65 – الكهف ، وهذا كله بإعلام الله ، وليس استقلالا عن المشيئة الإلهية أو العلم الإلهي فقد قال الخضر في نهاية الآيات ( وما فعلته عن أمري ) .
روى البخاري في تاريخه والترمذي والطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتّقوا فِراسة المؤمِن ، فإنه ينظر بنور الله " وقد قال العلماء أن الفراسة هي دقة النظر ووفور العلم بنور البصيرة ، وإن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لكلمة ( اتّقوا ) المذكورة في الحديث لها مدلول خاص ، فهي تدل على أن الأمر حقيقي لا مجازي ، وعندما يُخبِرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن فراسة المؤمن ونظره بنور الله من شأنه أن يُتّقى ويُعمل له حساب ، فمعناه أن الله يُطلِعه على بعض ما يخفى من الأمور ، وأن الله يطلعه على ما لم يطلع عليه غيره من أمور تغيب عن الآخرين ، وهل هذا له معنًى آخر سوى الإطلاع على بعض جزئيات الغيب ؟
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن فيكم محدَّثين ، وإن منهم عمر " . أي إن فيكم من يُخْبِر بالأمر كأنه حُدّثَ به ، أو إن فيكم مَن تُحدّثُه الملائكة بالأمر من الأمور ، وهذا نوع من أنواع معرفة ما يخفى من الأمور عن طريق الإلهام . وقد وقع للصحابة من هذا النوع كثيرا وسنضرب – إن شاء الله – لذلك الأمثلة التالية .
1 – أوصى أبوبكر ابنته عائشة – رضي الله عنهما – في شأن ما نحلها من أوسُق التمر من حديقته ، ثم نبّهها على جذاذه لتحوزه عن الورثة فقال في سياق كلامه : " إنما هُما أخواك وأختاك " فقالت إنما هي أسماء ، فمن الأخرى ؟ قال : " إن ذات بطن بنت خارجة ( زوجته الثانية ) أراها جارية " فكانت جارية . قال ابن خلدون في مقدمته : ( وقع في الموطّأ في باب : ما لا يجوز من النّحَل ) وقال أيضًا :
2 - قال عمر بن الخطاب :" يا سارية ... الجبل " وسارية هذا هو سارية بن زنيم ، كان قائدًا على جيوش المسلمين أيام الفتوحات ، وقد تورّط مع المشركين في مُعتَرَك وهَمّ بالانصراف ، وكان بقُربه جبل يتجهز إليه ، فرُفِع ذلك إلى عمر وهو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه : " يا سارية .. الجبل " ، وسمعه سارية وهو بمكانه ، ورأى شخصه هناك ، والقصة معروفة " انتهى كلام ابن خلدون .
والكرامة هنا ليست لعمر وحده ، بل ولسارية أيضا ، فسارية كان بالعراق ، وعمر كان بالمدينة ، ورغم بُعد المسافة فقد سمع سارية عمرًا ، وفي بعض الروايات أنه رأى شخصه هناك
3 – وعثمان بن عفان كان في بيته ، ودخل علية رجل كان قد نظر إلى محاسن امرأة في الطريق ، فلما دخل عليه الرجل قال عثمان : " يدخل أحدكم وآثار الزنا بادية في وجهه ؟ " فقال الرجل : أوَحْيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عثمان : لا ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله "
4 - وعلي بن أبي طالب عندما أشاع الناس أن معاوية قد مات ، قال عليُ رضي الله عنه : ( والله ما مات ، ولن يموت حتى يملك ما تحت قدميَّ هاتين ، إنما أراد ابن هند أن يستثير علمي فيه ) فمن يومئذ كاتَبَ أهل الكوفة معاوية وعلموا أن الأمر صائر إليه ، وهذا في الوقت الذي كان فيه عليّ بالعراق ، ومعاوية في الشام بدمشق .
هذا ، وإن السبب الرئيسي في إنكار بعضهم إمكان وقوع ذلك ، هو عدم التفرقة بين العلم والإعلام ، فالعلم صفة ذاتية لله تعالى ، فهو العليم بذاته لأنه خلق كل شيء ، قال تعالى : " ألا يعلمُ مَن خلق " أما عباده فليس لهم صفة العلم الذاتي ، بل لهم الإعلام ، فهم لا يعلمون بذاتهم ، بل يعلمون بإعلام الله لهم ، ولهذا قال تعالى : " ولا يُحيطون بشيءٍ مِن عِلْمِه إلا بما شاء " فقد أثبتَ في الآية أن لخلقه إمكانية أن يحيطوا بشيء من علمه ، لكن ليس بذاتهم ، إنما " بما شاء " سبحانه وتعالى .
أما قوله تعالى :" عالِم الغيب فلا يُظهِر على غيْبِه أحدًا إلا مَن ارتضى من رسول..." فقد ذكر المفسّرون ومنهم الفخر الرازي في تفسير( مفاتح الغيب ) أن المقصود من كلمة ( غيبه ) في الآية إنما غيبه الخاص ، الخاص دون العام ، وهو الغيب الخاص بالجنة والنار والصراط وسدرة المنتهى ... إلخ .
وقال الألوسي في تفسيره : ( ظاهر الآية أنه تعالى عالم كل غيب وحده ، لا يُظْهِرُ على غيبه المختص به وهو ما يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز وجل ، بدلالة الإضافة في قوله { غيبه } إلا رسولا وهو كذلك ، فإن غيبه تعالى لا يُطّلَع عليه إلا بالإعلام من رسول ملكي أو بشري ، ولا كل غيبه الخاص مطّلَعٌ عليه ، بل بعضه وأقل القليل منه ، فدلّ المفهوم على أن غير هذا النوع الخاص من الغيب لا منع من إطْلاع الله تعالى غير الرسول عليه ، فهذا ظاهر الآية دون تعسف ..... ) إلخ
ومن شواهد القرآن أيضا ما أوحى الله تعالى به إلى أم موسى { ولم تكن من الأنبياء والمرسلين ، لأنه لا نبوة في النساء } ، فقال تعالى : " وأوحيْنا إلى أُم موسى أنْ أرضِعيه ، فإذا خِفْتِ عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعِلوه من المرسلين " . جاء في تفسير الجلالين : أن هذا الوحي كان إلهامًا أو منامًا ، فقد أُخْبِرَتْ بأن ابنها سوف يردّه الله عليها وسيكون من المرسلين ، وهذا نوع من الإطلاع على الغيب ، ولم تكن أم موسى من الأنبياء والمرسلين ، لأنه - كما قلنا – لا نبوة في النساء .
وقصة السيدة مريم العذراء معروفة ولم تكن من الأنبياء ، بل هي كما قال عنها ربها : " صِدّيقة " تمثّل لها الملك بشرًا سويّا وأخبرها بما أخبرها به من أمر الغيب الذي تحقق بعد ذلك .
النفحات الإلهية ... للمقربين من الحضرة الربانية - ثانيا - الاطلاع على بعض الغيب