عدد المساهمات : 4107 تاريخ التسجيل : 30/01/2009 العمر : 38 الموقع : المشرف علي المنتدي
موضوع: أولياء الله السبت أغسطس 01, 2009 11:32 am
ش
أولياء الله
السمت كما قال ابن منظور هو "حسن النحو في مذهب الدين". وروى الضِّياء المقدسي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السمت الحسن جزء من خمسة (قال عياض: الصواب خمس) وسبعين جزءا من النبوة". وأشار السيوطي إلى الحديث بالصحة.
بأي شيء يتميز الأولياء عن كافة المومنين؟ في هذا الفصل ننوي إن شاء الله أن نلخص ونرتب ما سبق من معلومات ونكملها لتتجلى لنا صورة الولي العارف بالله أكثر.
قرأنا كيف قارن ابن تيمية العارف بالله بجنب عامة أهل الإيمان بالدُّرَّة في جنب البعْرة والملائكة في جنب البهيمة. كتب ذلك لأصحابه من السجن ليدلهم على أعلى الدرجات التي لا تنال إلا بمعرفة الله عز وجل و"الذوق والوجد". وقد أخذ نفس المقارنة الإمام الشوكاني، ونعيد كتابة نصه، قال: "والحاصل أن الخواطر الكائنة من أهل الولاية إذا لم تخالف الشرع فينبغي أن تكون مُسَلَّمَة لهم لكونهم أحباء الله وأولياءه وأهل طاعته وصفوة عباده. وليس لمن كان بالنسبة إليهم كالبهيمة بالنسبة للإنسان أو كالإنسان بالنسبة إلى الملائكة أن ينكر عليهم شيئا لا يخالف الشريعة".
ونعيد نَصَّين لابن القيم تقرأ وراء كلماتهما الحدَبَ الشديد على تبليغ معنى لا تكفي العبارة لحمله، فيستدعى المجاز، ويستعان بالكناية، ويحسب الشاكُّ والمشكِّك أنها مبالغات فادحة، وما هي والله إلا الحقيقة نطقوا بها تحقيقا وكتبوها تصديقا. قال في مدارج السالكين: "ومن لم يعلم معنى وجود الله والفوز به فَلْيَحْثُ على رأسه الرماد، وليبك على نفسه". وقال: "وهذا أمر لا يصدق به إلا من ذاقه. فإنما يصدقك من أشرق فيه ما أشرق فيك. ولله در القائل:
أيا صاحبي! ما ترى نارهم؟ *** فقال: تريني ما لا لأرى!
سقاك الغرام ولم يسقني *** فأبصرت ما لم أكن مبصرا"
الحنبليان المتشددان، ابن تيمية وتلميذه، هما أرفع الناس صوتا في الإخبار عن الولاية وذوقها ووجدها وعلومها القلبية وفتحها ونقص القاصرين في السلوك إليها. لم يجدا للإِدْلاَءِ بشهادتهما في الموضوع إلا أسلوب الشيخ عبد القادر، المنتسب إلى المذهب الحنبلي، عندما يستحثُّ الهمة الراقدة بقوله فيما يشبه التقريع: يا غلام! يا قفصا بلا طائر! وما بالقوم، ولا بالشوكاني من بعدهم، قصد إلى تبكيت أحد من خلق الله، إنما قصدهم أن يصيحوا بالبشارة والدلالة على باب خرجت منه إليهم عطايا "لا تخطر بالبال ولا تدور في الخيال". فأي لغة تسمو إلى العبارة عن الميزة العظمى التي لا يحلم بها أمل الحالمين غير المجاز والتقريع!
أما من أدخلوه الباب، بعد أن خرجت إليه التَّقْدِمات وهدايا الاستقبال، وأجلسوه على كرسي الكرامة فهو إما أخرسُ ألْجَمَه الفضل، أو كاتِمٌ قَيَّد لسانه العقل، أو سكران يهذي بما لا تفهمه العقول. ومن هذه الذريعة يدخل الزنديق ليبهرج في سوق العبارات المُعمّاة ليُروِّج لكفره. حَفظنا الله وحفظ بنا آمين.
وللمشككين المتذرعين بالحيطة المُتَسَرْبِلين بالريبة المتسلِّحين بالتهمة من مأدبة القوم رضي الله عنهم نصيب الحرمان. قال الشوكاني، لم يجد إلا لغة الشعر ليذُبَّ عن عقلك مقالات الشاكين: "فما أبعد ما جاء به المشككون في هذا الأمر (أمر الولاية) الذي لا يقبل التشكيك لا شرعا ولا عقلا بَلْ ولا عادة.(...). والمحروم من حرم ذلك:
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها *** سواها وما طهّرْتَها بالمدامع!
وتلتذ منها بالحديث وقد جرى *** حديث سواها في خروت المسامع
أُجِلُّك يا ليلى عن العين إنما *** أراك بقلب خاشع لكِ خاضع"
قلت: ليس ظهور الكرامة شرطا في الولاية، وليس الولي محترفا للولاية لا تُعْرَفُ ولايته حتى يتقدم إلينا أشعثَ أغبر أو في لباسٍ ناصع البياض. الولي المفتوح له يعرف خصوصيَّة نفسه، وقبل ذلك وبعده فهو في موقعه من المجتمع: عالما واعظا، أو نجارا، أو تاجرا، أو عاطلا، أو غير ذلك. يصطفي الله عز وجل من عباده لولايته من يشاء، فيخرجه من الظلمات إلى النور، ويقربه حتى يكون سمعه وبصره ويده ورجله كما جاء في الحديث القدسي، وما يعلم تأويل ذلك إلا الله. العبرة أن يستيقظ فيك عامل الرجاء، أو عامل المنافسة، أو يستثيرك نداءٌ. العبرة أن تحدِّث نفسك بأن تكون لله وليا مثلما كانوا.
سأل إبراهيم بن أدهم رَضي الله عنه رجلا: أتحب أن تكون لله وليا؟ قال: نعم! فقال: "لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة. وفَرِّغْ نفسك لله تعالى. وأقْبِلْ بوجهك عليه ليُقْبِل عليك ويواليك". وقال أبو يزيد البسطامي رحمه الله: "أولياء الله عرائس الله تعالى. ولا يرى العرائسَ المُجْرِمُون. فهم مُخَدَّرُون (أي محجوبون في الخِدْر) عنده في حجاب الأنس، لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة".
قلت: لا يراهم على حقيقتهم النورانية الروحانية إلا من كان مثلهم، فلا يعرفهم على حقيقتهم العاميُّ المحجوب دنيا ولا آخرة.
سئل الواسطي رحمه الله: كيف يغذَّى الولي في ولايته؟ فقال: "في بدايته بعبادته، وفي كهولته بسترته، وفي شيخوخته بلطافته. ثم يجذبه إلى ما سبق له من نعوته وصفاته، ثم يذيقه طَعْم قيامه به في أوقاته".
وقال أبو سعيد الخراز رضي الله عنه: "إذا أراد الله تعالى أن يُواليَ عبدا من عبيده فتح له باب ذكره. فإذا استلذَّ الذكر فتح له باب القرب.ثم رفعه إلى مجالس الأنس به. ثم أجلسه على كرسي التوحيد. ثم رفع عنه الحجب، وأدخله دار الفَردانيَّة، وكشف له عن الجلال والعظمة. فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقي بلا هوىً. فحينئذ صار العبد زَمِناً فانياً، فوقع في حظه سبحانه، وبرِئَ من دعاوِي نفسه".
كلمات نقلتها من رسالة الأستاذ القشيري رحمه الله يتحدث فيها أوائل الصوفية الأولياءُ عن الولاية وشروطها وذوقهم لطريقها. نستأنس بهذه المقالات ثم نمر إلى مجلس المجد المنيف، مجلس سيد الأنبياء والأصفياء والأولياء سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسمعه يخبر خبر اليقين عن حقيقة وجود الأولياء. ثم لنا رجعة للشيخين الرفاعي والجيلاني لنسمع التفصيل.
روى الإمام أحمد من ثلاثة طرق، عن علي بن أبي طالب وعن أم سلمة وعن عبادة بن الصامت، حديث الأبدال. والأبدالُ صنْف من الأولياء لهم بينهم مرتبة خاصَّة. وللناس جدل دائم في حقيقة وجود أولياءَ يسمون أبدالا وأقطابا وغير ذلك. ما لي ولك ولِلْجَدل! إنما يَرُدُّ علوم الأولياء إذا لم تكن صادِمة للشرع كما قال الشوكاني. وخبر الأبدال من نُطق النبوءة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "الأبدال يكونون بالشام، وهم أربعون رجلا. كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا. يُسْقَى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء، ويُصْرَف عن أهل الشام بهم العذاب".
ويخبر أهل المكاشفة من كبار الأولياء عن مراتب الولاية فيصدقهم من يرى مثلما يرون، ويُحسن الظنَّ من لم يكن حظه الحرمان، ويقول: "هذا كلام فارغ"، كما قالها قبله بعض علماء الأوراق، مِمَّن لا ينفتح قلبه لغير القال والقيل.
كأني بشاكٍّ مشكك جاهل بأقدار الأكابر يقول: هل نُقِل هذا عن ثقة مثل ابن تيمية؟ لقد كفاك الثقة الصادق مؤونة اللف والدوران حين أجمل لك، من عتبَة الموت، ما يُفصِّله لك أمثالُ الإمام الرفاعي، وحين شبه الدون والأعلى بالبهيمة والملائكة. وهذا إمام آخر، ستقرأ في الفقرة التالية إن شاء الله رأي ابن تيمية فيه، يؤكد حقائق مراتب الأولياء فيقول: "المومن لا يأكل لنفسه وبنفسه، ولا يلبس لها، ولا يتمتع، بل يتقوَّت ليَتَقَوَّى على طاعة الله عز وجل. يأكل ما يثبت أقدام ظاهره بين يديه. يأكل بالشرع لا بالهوى. والولي يأكل بأمر الله عز وجل.
"والبدل الذي هو وزير القُطْب يأكل بفعل الله عز وجل، والقطب أكله وتصرُّفه كأكل النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفه. كيف لا يكون كذلك وهو غلامه ونائبه وخليفته في أمته ! هو خليفة الرسول، خليفة الله عز وجل. هذا خليفةٌ باطنٌ وإمام المسلمين المتقدم عليهم خليفةٌ ظاهرٌ".
وقال رحمه الله وقدس سره العزيز: "ومن صحَّتْ تبعيته للرسول صلى الله عليه وسلم ألبسه دِرْعا وخَوْذَة، وقلده بسيفه، ونحله من أدبه وشمائله وأخلاقه، وخلع عليه من خِلَعه، واشتد فرحُهُ به كيف هو من أمته، ويشكر ربه عز وجل على ذلك. ثم يجعله نائبا له في أمته، ودليلا وداعيا لهم إلى باب الحق عز وجل.
"كان هو الداعي والدليل، ولمَّا قبضه الحق عز وجل أقام له من أمته من يَخْلُفُه فيهم. وهم آحاد أفراد: من كل ألف ألف إلى أن ينقطع النفس واحدٌ. يدلون الخلق، ويصبرون على أذاهم مع دوام النصح لهم. يتبسمون في وجوه المنافقين والفُسَّاق، ويحتالون عليهم بكل حيلة حتى يُخَلِّصوهم مما هم فيه، ويحملوهم إلى باب ربهم عز وجل. ولهذا قال بعضهم رحمة الله عليه: لا يضحك في وجه الفاسق إلا العارف. يضحك في وجهه ويريه أنه ما يعرفه. وهو يعلم بخراب بيت دينه، وسواد وجه قلبه، وكثرة غِلِّهِ وكَدَره.(...)
"ويلكم! تظنون أنكم تَخْفَوْن على الصِّدِّيقين العارفين العالمين! إلى أيِّ وقت تضيعون عمركم في لا شيء! اطلبوا من يدلكم على طريق الآخرة! يا ضُلاَّلا عنها! الله أكبر عليكم! يا موتى القلوب! يا مشركين بالأسباب! يا عابدين أصنام حولهم وقُوَاهُم ومعايشهم ورؤوس أموالهم وسلاطين بلادهم وجهاتهم التي ينتمون إليها!
"إنهم محجوبون عن الله عز وجل".
وقال الإمام الرفاعي ينادي الغافل: "أيها البعيدُ عنَّا! الممقوت منا! ما هذا منك يا مسكين! لوكان لنا فيك مقصد يشهد بحسن استعدادك، وخالص حبِّك إلى الله وأهله اجتذبناك إلينا، وحسبناك علينا، شئت وإن لا. لكن الحق يقال: حظُّك منعك، وعدم استعدادك قطعك. لو حسبناك منا ما تباعدت عنا. خذ مني يا أخي علم القلب! خذ مني علم الذوق! خذ مني علم الشوق! أين أنت مني يا أخا الحجاب! كُشف لي عن قلبك!".
قلت: لا إله إلا الله! الله أكبر عليكم يا من قطعهم الشك وأردتهم التُّهمة!
وقال مشمِّر بباب الجود والشاكّون نيامٌ:
وذي خِرَقٍ أخفى مضيض اكتئابه *** فَنَمَّ عليه دمعه بانسكابه
بكت عينه لما بكت عين قلبه *** ولولا بكاء العين لم يُدْرَ ما به
أذاب بخوف الله صحَّة جسمه *** وأبلى بتقواه رداء شبابه
ولم يُبْقِ حبُّ الله من جسمه *** سوى خيال تُقِلُّ الأرضُ تحت ثيابه
تَفَرَّد بالمولى وفَرَّ بنفسه *** إلى جبل يأوى لبعض شعابه
تراه من الخوف المبرِّح والأسى *** كمَيْتٍ دعاه ربُّه لحسابه
يمر فلا يدري من الخوف والرَّجا *** بأي يديه أَخْذُهُ لكتابه
إذا انصرف المحبوب من عند ربه *** تبادرت الأملاكُ أخذَ ركابه
إلى جنة فيها حرير لباسه *** ودُرٌّ ومرجان سروج دوابِّه
وحور كأمثال البدور نواهِد *** يلاعِبْنَه في الخلد جَوْفَ قبابه
إذا ما بدت حوراء منها بوجهها *** حكت بَدْرَ تِمٍّ قد بدا من سحابه