هي ذات النِّطاقَيْن: أسماء بِنْتُ أبي بكر الصديق، أُخْتُ عائشة لأبيها، وزوجة الصَّحابي الجليل الزُّبَيْربن العَوَّام، رَضِي الله عنهم أجمعين. اشْتَهَرَتْ بِعَقْلِها وعِزَّةِ نَفْسِها وقُوَّةِ إرادَتِها، وشَهِدَتْ وَقْعَةُ اليَرْمُوك مع زَوْجِها، وأَبْلَتْ فيها بَلاءً حَسَنا، وكانت ذات جُود وكَرَم، كما كانت شاعِرَة ناثِرَة ذات مَنْطِقٍ وبَيان، وفَصاحة. تُوُفِّيَتْ بِمكَّة بعد مَقْتَل ابنها عبد الله بن الزبير ولها مِئَة سنة ولَمْ يَسْقُطْ لها سِنّ، ولم ينكر لها عقل، لكن بَصَرها كُفَّ في أواخر حياتها. ويبدو مضاء عزيمتها وشجاعتها في حوارها لابنها عبد الله حين دخل عليها لِيُوَدِّعَها حين خَذَلَه الناس، وعَزَمَ على الخُروج إلى الحرب: "يا أُمَّاه، قد خَذَلَنِي الناس حتى وَلَدِي وأَهْلِي، ولم يَبْقَ معي إلا اليَسِير، ومَنْ ليس عنده أكثر مِنْ صَبْر ساعة، والقوم يُعْطُونَني ما أَرَدْتُ من الدنيا، فما رَأْيُك". فقالت:"أنتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِك: إن كنتَ تعلم أنّسيدنا محمد صلى الله علية وسلم على حقٍّ وإليه تَدْعُو فَامْضِ له، فقد قُتِل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك تلعب بها غِلْمان بَنِي أُمَّيّة. وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك. وإن قلتَ: كنتُ على حق، فلما وَهَنَ أصحابي ضَعُفتُ، فهذا ليس فعلَ الأحرار، ولا أهلِ الدين. كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن". فقال: "يا أماه، أخاف إِن قتلني أهل الشام أن يُمَثِّلُوا بي ويُصَلِّبوني". قالت:"يا بُنَيّ، إنَّ الشَّاة لا تتألم بالسَّلْخ بعد الذبح، فَامْضِ على بَصِيرتك واسْتَعِنْ بالله". فقَبَّل رأسها وقال:"هذا رأيي، والذي خرجت به داعيا إلى يومي هذا، ما ركَنْتُ إلى الدنيا ولا أحببتُ الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله، وأن تُسْتَحَلَّ حرُماته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة. فانظري يا أماه، فإني مقتول في يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسَلِّمي الأمر إلى الله، فإن ابنك لم يعهد بإيثار منكر ولا عَمَدَ بفاحشة، ولم يُجِرْ في حُكْمِ الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به، بل أنكرْتُه، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي. اللهم لا أقول تزكيةً لنفسي، ولكني أقوله تعزيةً لأمي حتى تَسْلُو عني". فقالت أمه: "إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلاً إن تقدمتَني احتسبتُك، وإن ظفرتَ سُررتُ بظفركَ. اخرج حتى أنظر إِلام يصير أمرُك؟" فقال: "جزاك الله خيرًا، فلا تدعي الدعاء". قالت:"لا أدعه لك أبدا، فمَنْ قُتِل على باطل فقد قُتِلْتَ على حق". ثم قالت:"اللهم ارحم طول ذلك القيام بالليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة وبرَّه بأبيه. اللهم قد سلَّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين...". ثم دَنا منها فوَدَّعَها، وخرج فقاتل حتى قُتل.