سنقف في هذا اليوم مع علم من الأعلام، ومجدد من المجددين، وعابد من العباد، وزاهد من الزهاد، يجب أن يكون حديث الشيوخ في السمر، وأن يكون قصة تقص للأطفال، وأن يكون حديث البيوت، إنه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، إنه أبو عبد الملك الذي أطاع الملك سبحانه وخافه، وخشيه.
فسلام عليك يا عمر بن عبد العزيز يوم توليت الخلافة فخشيت الله في الخلافة، وسلام عليك يوم خفت الله، فلم يكن أحد من الناس أخوف منك من الله، وسلام عليك يوم لقيت الله راضيًا مرضياً، هذا الرجل بشر به صلى الله عليه وسلم أن يكون مجدداً في القرن الأول على رأس المائة الأولى، تولى الخلافة فكانت خلافته ثلاثين شهراً لكنها خير عند الله من ثلاثين قرناً، أول يوم بويع فيه بالخلافة مضى إلى المنبر، فتعثر من الخوف والوجل من الله: وقف على المنبر ليتحدث إلى من في المسجد من الوزراء والعلماء والعباد والفقهاء، والجنود المجندة والجيوش المجيشة، فقال: [[يا أيها الناس! بويعت بالخلافة على غير رغبة مني، فخذوا خلافتكم لا أريدها، فضج الناس بالبكاء، وقالوا: لا نريد إلا أنت، فقال: الله المستعان وعليه التكلان، وحسبي الله ونعم الوكيل ]] ولما انتهت الصلاة عرضت له الدواب والبغال ليركبها فأعرض عنها، وقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].
زهد عمر بن عبد العزيز
عاد عمر إلى بيته، وترك قصر الخلافة الشاهق في دمشق ، ونزل إلى غرفته، وجلس على الحصير وقال: هذا حظي من الخلافة، ثم استدعى زوجته الزاهدة فاطمة زوجة الخليفة وبنت الخليفة وأخت الخلفاء، وقال لها: [[إني بعت نفسي من الله عز وجل، فإن كنت تريدين العيش معي فحيهلاً وسهلاً وإلا فالحقي بأهلك ]] فبكت وقالت: الحياة حياتك والموت موتك، ثم سلمت له ذهبها وفضتها وحليها إلى بيت المال، وعاد رضي الله عنه وأرضاه ليرد الأمة إلى الله الواحد القهار، عاد ليربيها من جديد مع ربها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فكان يصدق قوله فعله، وكان لا يشغله عن الله شاغل. أما ليله فبكاء وسجود وتبتل وخشوع مع الله، وأما نهاره فتعليم للناس وعدل وإنصاف وبذل وعطاء، كان بعد كل صلاة ينادي المنادي: أين الفقراء؟ أين المساكين؟ أين المحتاجون؟ أين الذين يريدون الله؟ أين الذين لم يأخذوا من الدنيا شيئاً؟ فيبذل لهم المال، فتقام به قلوب حية وتحيا بهم أرواح كانت ميتة.
رزقه الله الخشية، والذي يجعل الله نصب عينيه دائماً؛ يفتح الله عليه فتحاً لا يدور بالخيال، ولا يخطر بالبال؛ فكان من أخشى الناس لله.
دخل عليه أحد العباد من أهل المدينة ، واسم هذا العابد زياد مولى ابن عياش ، فقال لـعمر بن عبد العزيز : "ما دهاك؟ ماذا أصابك؟ قال: وماذا تقول؟ قال: والله لقد رأيتك وأنت من أجمل الفتيان في قريش، تلبس اللباس اللين، وأصبحت في هذه الحالة، والله لو دخلت عليك في غير هذا المكان لما عرفتك، فبكى عمر وقال: والله لو رأيتني بعد ثلاثة أيام من دفني لأنكرتني شديداً، حين تسقط عيناي على وجنتي، وتخلع أذناي من رأسي، ويتغير خدي، وينهش بطني، إذاً لرأيت منظراً فظيعاً ؛ فبكى ذاك العابد".
عمر بن عبد العزيز يذاكر العلماء
ولما تولى الخلافة أرسل إلى علماء الأقاليم فقال: [[أوصوني فإني قد توليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ]] فكتب له محمد بن كعب : " يا أمير المؤمنين! والله الذي لا إله إلا هو ما بقي من الخلفاء على قيد الحياة إلا أنت، فاتق الله أن تصرع كما صرعوا ". وكتب له سالم بن عبد الله من أخواله: " يا أمير المؤمنين! صم هذا اليوم، حتى تلقى الله فتفطر عنده يوم يستبشر الصائمون بفطرهم "، وكتب له مطرف بن عبد الله الشخير : " يا أمير المؤمنين! لو كان لك خصم لديد لأعجزك، فكيف بخصمين؟! فكيف بثلاثة؟! وكيف بك وكل واحد من رعيتك خصم لك يوم القيامة عند الله؟!!
فأخذ هذه الرسائل وطواها ينظر فيها كل يوم، وجمع سبعة من الصلحاء ومن الزهاد والعباد وقال: أنتم جُلَّاسي وسُمَّاري كل ليلة، أشترط عليكم ثلاثة شروط، الأول: ألا تغتابوا في مجلسي أحداً، والأمر الثاني: ألا تتحدثوا في الدنيا أبداً، والأمر الثالث: ألا تمزحوا وأنا جالس، فكانوا يجتمعون بعد صلاة العشاء، فيتحدثون في الموت -وما أدراك ما الموت؟!- وما قبل الموت وما بعده، ثم ينفضون من مجلسهم كأنهم قاموا عن جنازة.
وفي أثناء الخلافة كتب له سالم بن عبد الله بن عمر كتاباً فظيعاً شديداً مدهشاً، يقول: " يا أمير المؤمنين! والله لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صرعوا، فها هنا مصارعهم في القبور فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون بعيون إلى اللذات فأكلت، وكانوا يأكلوا في بطون فنهشت، وكانوا يمسون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تكون مع المحبوسين يوم القيامة يوم يطلق العادلون ".
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه تولى الخلافة فنام بعد صلاة الظهر في ذاك اليوم، فقال له ابنه الصالح العابد المجاهد عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز -وعمره آنذاك تسعة عشر سنة- قال له: يا أبتاه! أتنام وقد توليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يسألك الفقير ويشكو إليك المسكين، ويتحاكم إليك المظلوم، فمن لك بهؤلاء إذا أتوا خصومك يوم القيامة.
عمر بن عبد العزيز وخوفه من الله
ولما تولى رضي الله عنه وأرضاه خلع كل لباس كان يلبسه، وأبقى ثوباً واحداً، فكان إذا أراد أن يغتسل يوم الجمعة نشف له ثوبه هذا بعد أن يغسل، واغتسل ثم لبسه وصعد المنبر، لم يبق قليلاً ولا كثيراً، يقول رضي الله عنه وأرضاه للناس: أيها الناس! وهو يخطب: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] قال: ما للشمس تكور؟ ثم قال: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير:2] قال: ما للنجوم تنكدر؟ ثم بكى حتى صرع على المنبر. وحج بالناس فوقف في عرفة فأخذ الناس يتسابقون مع الغروب إلى مزدلفة فقال: [[لا والله. ليس السابق اليوم من سبق جواده وبعيره، ولكن السابق من غفر له هذا اليوم ]] ونزل هو والأمراء في منتزه وبستان من البساتين، فلما جلسوا استأنسوا واستراحوا إلا هو جلس يبكي، قالوا: مالك؟ قال: هذه دنيانا وبساتيننا، فكيف بنا يوم العرض على الله إذا دخل الناس بساتينهم ولا بساتين لنا؟! فبكى الناس.
عـليك سـلام الله وقفاً فإنني رأيت الكـريم الحر ليس لـه عمـر
إذا شجرات العرف جذت أصولها ففي أي غصن يوجد الورق النضر
لما تولى الخلافة قال لأهله: إني قد آنست عقبة كؤداً لا يجوزها إلا المخف.
تقول امرأته: والله ما كان يأوي إلى فراشه إلا كما يأوي العصفور إلى عشه، وإنه ليرتجف صدره كل ليلة، فأقول: مالك؟ قال: أريد أن أنام فأتذكر قوله تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7] فلا يأتيني النوم.
وكان الخطباء في عهده يسبون أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه وأرضاه، فنسخ هذا وأبدل الخطباء بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].