موضوع: سلوك الإمام الشاذلي الخميس مارس 19, 2009 7:51 am
سلوك الإمام الشاذلي
تخَرَّجَ السيد أبو الحسن الشاذلي في علوم الشريعة ثم سلك الطريق حتى تأهل للمشيخة قبل أن يغادر وطنه المغرب إلى مصر. وكان ضرير البصر ثاقب البصيرة، أوتي من النورانية والحكمة ما جمع حوله الخاصة والعامة، كما يدل على ذلك المشهدان التاليان.
قال الشيخ الصوفي مكين الدين الأسمر:"حضرت بالمنصورة في خَيْمةٍ فيها الشيخ الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام والشيخ مجد الدين بن تقي الدين علي بن وهب القشيري المدرِّس والشيخ محيي الدين بن سُراقة والشيخ مجد الدين الأخميمي والشيخ أبو الحسن الشاذلي، رضي الله عنهم، ورسالةُ القشيري تقرأ عليهم. وهم يتكلمون، والشيخ أبو الحسن صامِتٌ. إلى أن فرغ كلامهم. فقالوا: يا سيدي! نريد نسمع منك. فقال: أنتم ساداتُ الوقت وكبراؤه، وقد تكلمتم. فقالوا: لا بد أن نسمع منك!
قال: "فسكت الشيخ ساعة، ثم تكلم بالأسرار العجيبة والعلوم الجليلة. فقام الشيخ عز الدين، وخرج من صدر الخيمة، وفارق موضعه، وقال: اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد من الله!"
هكذا كانت حَظْوة الشيخ الإمام عند الخاصة من أكابر العلماء. وكان لا يقبل أحدا من أهل العلم يتتلمذُ له حتى يعقد مجلس مناظرة يمتحن فيها تمكنه من علوم الشريعة.
أما دعوته للعامة فقد سلك فيها مسلكا زاد فيه على صنيع الإمامين الجليلين قبله، الجيلاني والرفاعي. هما كانا يكتفيان في مجالس وعظهما العام بالتحدث بنعمة الله عليهما ليوجها قلوب الخلق إليهما، وهو كان يدعو إلى طريقته في الشارع، معلنا عن مقامه بما يُشبه الفخرَ والدعوَى في نظر من لا يدري مكانة أولياء الله.
قال في الشذرات: "كان إذا ركب تمشى أكابر الفقراء وأهل الدنيا حولَه، وتُنشَر الأعلام على رأسه، وتُضرب الكوسات (الطبول) بين يديه، وينادي النقيب أمامه بأمره له: من أراد القطب الغوث فعليه بالشاذلي".
يتَّسم سلوك الشاذلي بالتيسير، فسُمِّيَتْ طريقته طريقة الشكر، وسنرجع إليها بحول الله في الفصل المقبل. لكن الخصائص العامة للإرادة والصحبة ودوام الذكر والإخلاص والصبر هي هي عنده كما عند الذين درجوا قبله، رضي الله عنهم أجمعين.
فهو يوصي المريد المبتدئ بقطع العلاقات مع رفقة الغافلين فيقول: "اهرُب من خير الناس (في نظرك) أكثر مما تهرب من شرهم. فإن خيرهم يصيبك في قلبك، وشرهم يصيبك في بدنك. ولأَنْ تُصابَ في بدنك خير لك من أن تُصاب في قلبك. وَلَعَدُوٌّ تصل به إلى الله خير من حبيب يقطعك عن الله. ودَعْ إقبالهم عليك ليلا وإعراضهم عنك نهارا. ألاَ ترَاهم إذا أقبلوا فتنوا".
ويوصي بصحبة الكمَّل فيقول: "قال لي شيخي (وهو الشريف المولى عبد السلام بن مشيش): لا تصحب إلا من تكون فيه أربع خصال: الجود من القلة! والصفح عن المظلمة، والصبر على البلية، والرضى بالقضية".
ويفصل الشيخ تاجُ الدين بن عطاء الله تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي تلميذ أبي الحسن آدَابَ الصحبة في الطريقة الشاذلية فيقول: "الاقتداء لا يكون بوليٍّ مجهول العيْن في كون الله، بل الاقتداء إنما يكون بولي دلَّك الله عليه، وأطلعك على ما أوْدَعَه من الخصوصية لديه. فطوَى عنك شهودَ بشريته في وجودِ خصوصيَّتِه. وألقيت إليه القياد فسلك بك سبيل الرشاد.
"يُعرِّفك برعونات نفسك وكمائنها ودفائنها، ويدُلك على الجمع على الله، ويعلمك الفرار مما سوى الله، ويسايرك في طريقك حتى تصل إلى الله. ويوقفك على إساءة نفسك، ويعرفك بإحسان الله إليك. فتُفيدك معرفةُ إساءة نفسك الهرَبَ منها، وعدم الركون إليها. ويفيدك العلمُ بإحسان الله إليك الإقبالَ عليه، والقيامَ بالشكر له، والدوامَ على مَمَرِّ الساعات بين يديه.
قال: "فإن قلت: فأين من هذا وصفُه؟ لقد دللتني على أغربَ من عنقَاءَ مُغْرِب!
"فاعلم أنه لا يُعْوِزُكَ وجدان الدَّالين، وإنما قد يعوزك وجدان الصدق في طلبهم. جِدْ صدقاً تَجِدْ مُرشدا. وتجدُ ذلك في آيتين من كتاب الله. قال الله سبحانه: أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه.(سورة النمل، الآية: 64) وقال سبحانه: فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم.(سورة محمد، الآية: 22)
"فلو اضطُرِرْتَ إلى من يُوصلك إلى الله اضطرار الظمآن للماء، والخائفِ للأمن، لوجدتَ ذلك أقرب إليك من وجود طلبك. ولو اضطُرِرْتَ إلى الله اضطرار الأم لولدها إذا فقدتْه لوجدت الحق منك قريبا، ولك مجيبا. ولوجدت الوصول غيرَ متعذِّرٍ عليك، ولتوجه الحق بتبيين ذلك إليك. فهذا الكلام في طريق الجواز والوقوع جميعا".
قلت: الاضطرار إلى الله عز وجل عطاءٌ منه سبحانه نفيس. وهو اتِّقادُ الإرادة وتوجُّهُها بصدق في الطلب. فمن وجد في نفسه صدقَ الاضطرار ورغِبَ عن كل ما سوى الله عز وجل وأظلمت الدنيا في عينه ما دام لا يعرف الطريق إلى الله، فذاك قريب من نيْل الرغائب. صدق الاضطرار أخرج حجَّةَ الإسلام الغزاليَّ من "حِشمته" في بغداد. وبخَلْفِيَّةِ صدق الاضطرار أشار الشيخ عبد القادر على الباحث عن الولي المرشد أن يقوم من الليل ويسأل الله تعالى والناس نيام، وقلبُه هو من بين المرتاحين مُتعَبٌ مُوَلَّهٌ مُلْتاع، قائلا: يا رب من أصحب! من الدليل عليك!
ويا ما أصْدَقَها حكمة: جِدْ صدقاً تجدْ مرشدا. الاضطرار إلى الله عز وجل عطاء من عنده، ونداء من حضرته تعالى إلى العبد المحبوب. وبالمحبة المتعلقة بالجناب الأقدس، الفائضة منه على العبد في حقيقة الأمر، الراجعة إليه، تتمكن أسباب التواصل، وتتحرك حِبال التقريب حتى يصل الكتابُ أجله، فإذا بالعبد المتقرب قد تنوَّر.
قال الإمام أبو الحسن في المحبة، مستعملا مصطلحات القوم: "المحبة آخذة من الله لقلب عبده عن كل شيء سواه. فترى النفس مائلةً لطاعته، والعقل متحصِّنا بمعرفته، والروحَ مأخذوة في حضرته، والسرَّ مغموراً في مشاهدته. والعبدُ يستزيد فيُزاد، ويفاتَحُ بما هو أعذبُ من لذيذ مناجاته. فَيُكْسَى حُلَلَ التقريب على بساط القُربَة، ويَمَسُّ أبكارَ الحقائق وثيِّباتِ العلوم. فمِن أجل ذلك قالوا: أولياء الله عرائس، ولا يرى العرائِسَ المجرمون.
"قال له القائل: قد علمتُ الحب، فما شرابُ الحب، وما كأس الحب، ومن الساقي، وما الذوق، وما الشراب، وما الري، وما السكر، وما الصحو؟
"قال رضي الله عنهُ: الشراب هو النور الساطع عن جمال المحبوب. والكأس هو اللطف الموصِل ذلك إلى أفواه القلوب. الساقي هو المتولي الأكبر للمخصوصين من أوليائه والصالحين من عباده وهو الله العالم بالمقادير وبمصالح أحبائه. فمن كُشِفَ له عن ذلك الجمال، وحَظِيَ منه بشيء نَفَساً أو نَفَسَيْن، ثم أُرخِي الحجابُ فهو الذائق المشتاق. ومن دام له ذلك ساعة أو ساعتين فهو الشارب حقا. ومن توالى عليه الأمر، ودام له الشرب حتى امتلأت عروقه ومفاصله من أنوار الله المخزونة فذاك هو الري.
"وربما غاب المحسوس والمعقول. فلا يدري ما يقال ولا ما يقول، فذاك هو السُّكر. وقد تدور عليهم الكؤوس، وتختلف لديهم الحالات، فَيُرَدُّون إلى الذكر والطاعات، ولا يحجبون عن الصفات، مع تزاحم المقدورات فذلك وقت صَحْوهم، واتساع نظرهم، ومزيد علمهم".
وهذه وصية جامعة لأبي الحسن تُلخص السلوك. قال قدس الله سره: "إنك إذا أردت أن يكون لك نصيبٌ مما لأولياء الله تعالى فعليك رفض الناس جملةً إلا من يدلك على الله تعالى بإشارة صادقة، وأعمال ثابتة لا ينقضُها كتاب ولا سنة. وأعْرِضْ عن الدنيا بالكلية، ولا تكن ممن يُعرض عنها ليُعطى شيئا على ذلك. بل كن في ذلك عبداً لله، أمرك أن ترفض عدوه.
"فإن أتيت بهاتين الخصلتين: الإعراض عن الناس والزهد في الدنيا فأقِم مع الله بالمراقبة، وملازمة التوبة بالرعاية والاستغفار والإنابة، والخضوع للأحكام بالاستقامة.
"وتفسير هذه الوجوه الأربعة: أن تقوم عبداً لله فيما تأتي وما تذَر، وتراقب قلبك أن لا يَرَى قَلْبُك في المملكة شيئا لغيره.
"فإذا أتيت بهذا نادتك هواتفُ الحق من أنوار العزَّة: إنك قد عَمِيتَ عن طريق الرشد! من أين لك القيام مع الله تعالى بالمراقبة وأنت تسمع قوله عز وجل: وكان الله على كل شيء رقيبا(سورة الأحزاب، الآية: 52).
قلت: هذه مرحلة اعتماد السالك على جُهد نفسه، وهي لا تزال حيَّةً تسعى، تُسوِّلُ له أن الطاعات من كسبه المحض، وأن السلوك أخذ وعطاء. وكثيرا ما تجد السالك في هذه المرحلة يتعلق بنتائج الأذكار، ويهفو إلى لوائح الأسرار وبوارق الأنوار. ويترقَّب ظهور الكرامة وفتح الباب. وكل هذه التطلعات والتخرصات ظواهر لعَرَامَة النفس وشرَّتها. فإذا أراد الله بالسالك أن يُوقِفَه على أرض العبودية غير المشروطة التي عليها السير الحقيقي تدارسيدنا محمد صلى الله علية وسلمه بانكسار نفسه وتحطُّم عزائمها، فلا يبقى له اعتماد إلا على فضل ربه المحض. وهناك يبدأ السير القلبي.
قال أبو الحسن: "فهناك يدركُك من الحياء ما يحملك على التوبة مما ظننت أنه قريب. فالتزم التوبة بالرعاية لقلبك أن لا يشهد ذلك منك بحال فتعود إلى ما خرجت منه.
"فإن صحت هذه منك نادتك الهواتف أيْضا من قِبَل الحق تعالى: التوبة منه بدأت، والإنابة منه تتبعها، واشتغالك بما هو وصف لك حجاب عن مرادك!
"فهناك تظهر أوصافك (النفسية)، فتستعيذ بالله منها. وتأخذ في الاستغفار والإنابة. والاستغفار طلب السِّتر من أوصافك إلى أوصافه. فإن كنت بهذه الصفة، أعني الاستغفار والإنابة، ناداك عن قريب (بإلهام أو وحي منام أو قرينة حال أو غير ذلك): اخضع لأحكامي، ودَعْ عنك منازعتي، واستقم مع إرادتي برفض إرادتك. وإنما هي ربوبيَّة تولَّت عبوديّةً. وكن عبدا مملوكاً لا يقدر على شيء. فمتى رأيت منك قدرة وكلْتُك إليها. وأنا بكل شيء عليم.
"فإن صح لك هذا الباب ولزمته أشرفت من هنالك على أسرار لا تكاد تُسمَع من أحد من العالمين".
ومن وصايا الإمام الشاذلي، في معنى ما تقدم، قوله: "لن يصل الولي إلى الله ومعه شهوة من شهواته، أو تدْبيرٌ من تدبيراته، أو اختيار من اختياراته".
قلت: وهذا هو شرط العبودية: أن تفوِّضَ له سبحانه،مع دوام التوسل والتضرع والطاعة والذكر والاستغفار والانكسار .