قصة مثيرة للغاية
بسم الذي لا يضر مع أسمه شيء في الأرض ولا في السماء و هو السميع العليم
هذه بعض القصص التي أخترتها لكم بنفسي من كتاب مئة قصة و قصة في التوبة وحسن و سؤ الخاتمة.
أرجو أنا ينفعنا الله و أياكم بهذه القصص التي أثرت في كثيراً و أردت أن أنقلها لكم كي تشعروا معي كم هي الدنيا حقيرة لن ينتفع منها سوي الذي يشغلها بالدعاء.
أترككم مع أول قصة والتي هي بعنوان ياسمين و التي ستحمل لكم الكثير من المعاني أود أن أقرأ بعضها منكم شخصياً.
يقول الراوي: كنت علي موعد مع صديق لشرب القهوة العربية بعد صلاة العصر.....وصلت إلي الفندق وتحديداً إلي قاعة المقهى المكيف الجميل.....وذلك قبل الموعد بساعة..دخلت المقهي ولم أكن أعرف أين أجلس أو أين أنظر, إلا أن جمال المكان شدني للتجوال في انحائه لرؤية كل زاوية فيه, وبالفعل تنقلت حتي وصلت إلي زاوية في آخر المقهي حيث وضع أثاث جميل وهادئ الألوان.....وإضاءة خفيفة جداً, ولا يري الإنسان هناك إلا صفحة الوجة......شدني ذلك......وتقدمت قليلاً وبهدؤ شديد إلي الجالس علي تلك الأريكة, فقط لكي أهنئه علي حُسن اختياره لتلك الزاوية.....ولكنني رأيت رجلاً في الخمسينات نحيف الوجه......قد خط فيه الزمن خطوطه.....وعيناه غائرتان ومليئتان بدمعتين من الحجم الكبير جداً.....وكان يجاهد لكي يمنعهما من التدحرج علي خديه.....تقدمت إليه فرأيته غارقاً في فكر بعيد جداً.....يخترق بنظراته الخمسينية ما وراء الفندق, بل ما وراء الكرة الأرضية كلها.
فقلت له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
فنظر إلي نظرة استغراب لأنه لا يعرفني ولا أعرفه...وقل: وعليكم السلام....
ثم سكت..
فقلت: هل يمكنني الجلوس علي الأريكة المقابلة أم أنها محجوزة؟
فقال كالمنزعج لانقطاع حبل أفكاره: لا.....نعم....تفضل......تفضل.
فجلست وأنا ساكت......ولكن كيف للثرثار بأن يجلس دون تعذيب لسانه......
فقلت: عفواً....ولكن لماذا تعذب عينيك وتمنع دمعتيك من التدحرج علي خدك....لو كنت مكانك لأرحت عيني من تحمل حرارة الدمع الحزينة وأرسلتها علي خدي.....
فما أن سمع كلامي حتي تدحرجت الدموع علي خديه وسلكت التقاطيع الكثيرة في وجهه......ولكنه لم يمسحهما بمديل....
قلت: لابد أنك تذكرت أناساً أعزاء عليك!!
قال: وما يدريك؟! قلت:: أري معزتهم في عينيك ومحياك...
قال: نعم أعزاء جداً جداً.....
قلت: ومتي ستلتقيهم؟
قال: والله أتمني في كل لحظة السفر إليهم ولكن المسافة بعيدة جداً....
قلت: وأين سكناهم؟
قال: آخر لقائي بها كان في أمريكا قبل ثلاث سنوات ولكننا افترقنا فلم نكن نلتقي إلا في المنام و الأحلام.........
قلت: أيها العاشق أخبرني بقصة عشقك إن لم يكن في ذلك تدخل شخصي في حياتك...
قال و بابتسامة صغيرة: لا أبداً.......ليس هناك بيني و بين ياسمين أيه أسرار؛ بل وستكون سعيدة حسب ظني بها لو أنني قصصت عليك قصة حبنا الكبير....ولكن دعني أوضح لك معلومة صغيرة وهي إن ياسمين هي ابنتي التي كانت تبلغ من العمر عشر سنوات.....ففوجئت بالمعلومة........ثم استطرد قائلاً: هل تحب أن تسمع قصة حبنا الكبير؟
قلت متحمساً: نعم وبكل شوق......
قال: عشت في الدمام عشر سنين ورزقت فيها بأبنة واحدة أسميتها ياسمين, وكان قد ولد من قبلها ابن واحد وأسميته أحمد وكان يكبرها بثمان سنين وكنت أعمل هنا في مهنة هندسية.....فأنا مهندس وحائز علي درجة الدكتوراه.....كانت ياسمين آية في الجمال لها وجه نوراني وملائكي زاهر....ومع بلوغها التسع سنوات رأيتها من تلقاء نفسها تلبس الحجاب...وتصلي...وتواظب علي قراءة القرآن بصورة ملفتة للنظر....فكانت ما أن تنتهي من أداء واجباتها المدرسية حتي تقوم علي الفور وتفترش سجادة صلاتها الصغيرة...وتأخذ بقرآنها وهي ترتل ترتيلاً طفولياً ساحراً.....فكنت أقول لها: قومي العبي مع صديقاتك....
فكانت تقول: صديقي هو قرآني وصديقي هو ربي ونعم الصديق...ثم تواصل قراءة القرآن... وذات يوم اشتكت من ألم في بطنها عند النوم...فأخذتها إلي المستوصف القريب...فأعطاها الطبيب بعض المسكنات فتهدآ آلامها ليومين أو ثلاثة ثم تعاودها ثانية........وهكذا تكررت الحالة.ولم أعط الأمر حينها أي جدية, وفتحت الشركة التي أعمل بها فرعاً بالولايات المتحدة الأمريكية.....وعرضوا علي منصب المدير العام هناك..فوافقت....زولا أستطيع وصف سعادتنا بتلك الفرصة الذهبية والسفر للعيش في أمريكا.
بعد مضي قرابة الشهرين علي وصولنا إلي أمريكا عاودت الآلام ياسمين..فأخذتها إلي دكتور باطني متخصص..فقام بفحصها وقال: ستظهر النتائج خلال أسبوع ولا داعي للقلق.........أدخل كلام الطبيب الاطمئنان لقلبي.........وسرعان ما حجزت لنا مقاعد علي أقرب رحلة إلي مدينة الألعاب (أور لاند) وقضينا وقتاً ممتعاً مع ياسمين......بين الألعاب والتنزه هنا و هناك......وبينما نحن في متعة المرح رن صوت هاتفي النقال فوقع قلبي........لا أحد في أمريكا يعرف رقمي...........عجباً أكيد الرقم خطأ......فترددت في الإجابة..........وأخيراً ضغطت علي زر الإجابة: آلو.ززمن المتحدث؟ أهلاً يا حضرة المهندس........معذرة علي الإزعاج فأنا الدكتور ستيفن..........طبيب ياسمين هل يمكنني لقاؤك في عيادتي غداً؟
وهل هناك ما يقلق في النتائج؟! في الواقع نعم.........لذا أود رؤية ياسمين وطرح عدداً من الأسئلة قبل التشخيص النهائي.
حسناً سنكون عصر غد عند الخامسة في عيادتك إلي اللقاء.
اختلطت المخاوف والأفكار في رأسي.........ولم أدرك كيف أتصرف فقد بقي في برنامج الرحلة يومان وياسمين في قمة السعادة لأنها المرة الأولي التي تخرج فيها للتنزه منذ وصولنا إلي أمريكا.
وأخيراً أخبرتهم بأن الشركة تريد حضوري غداً إلي العمل لطاريء ما.......وهي فرصة جيدة لمتابعة تحاليل ياسمين....فوافقوا جميعاً علي العودة بشرط أن نرجع إلي أور لاند في العطلة الصيفية......و في العيادة استهل الدكتور ستيفن حديثه لياسمين بقوله: مرحباً ياسمين كيف حالك؟
جيدة والحمد لله...........ولكني أحس بآلام وضعف, لا أدري مم؟
وبدأ الدكتور يطرح الأسئلة الكثيرة.......وأخيراً طأطأ رأسه وقال لي: تفضل في الغرفة الأخري.........وفي الحجرة أنزل الدكتور علي رأسي صاعقة.........تمنيت عندها لو أن الأرض أنشقت و ابتلعتني.........قال الدكتور: منذ متي و ياسمين تعاني من المرض؟
قلت: منذ سنة تقريباً......وكنا نستعمل المهدئات وتتعافي.....
فقال الطبيب: ولكن مرضها لا يتعافي بالمهدئات.......إنها مصابة بسرطان الدم في مراحله الأخيرة جداً.......ولم يبق لها من العمر إلا ستة أشهر..............وقبل مجيئكم تم عرض التحاليل علي أعضاء لجنة مرضي السرطان في المنطقة وقد أقروا جميعاً بذلك من واقع التحاليل............فلم أتمالك نفسي وانخرطت في البكاء وقلت: مسكينة......والله مسكينة ياسمين هذه الوردة الجميلة..........كيف ستموت وترحل عن الدنيا..........وسمعت زوجتي صوت بكائي فدخلت.......ولما علمت أغمي عليها, وهنا دخلت ياسمين و ابني أحمد........ وعندما علم أحمد الخبر احتضن اخته وقال: مستحيل أن تموت ياسمين...... فقالت ياسمين ببرائتها المعهودة: أموت؟؟؟؟؟؟؟؟يعني ماذا أموت؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فتعلثم الجميع من هذا السؤال...فقال الطبيب: يعني سترحلين إلي الله......فقالت ياسمين وهي تبتسم: أحقاً؟؟؟؟ أسأرحل إلي الله؟؟..زولكنها أستدركت و قالت: وهل هو سيء الرحيل إلي الله؟ ألم تعلماني يا والدي بأن الله أفصل من الوالدين و الناس وكل الدنيا؟ وهل رحيلي إلي الله يجعلك تبكي يا أبي ويجعل أمي يغمي عليها؟
فوقع كلامها البريء الشفاف مثل صاعقة أخري........فباسمين تري في الموت رحلة شيقة فيها لقاء الحبيب.........عليك الأن أن تبدئي العلاج...فقالت: إذا كان لابد لي من الموت فلماذا العلاج والدواء والمصاريف؟
نعم يا يسمين........نحن الأصحاء أيضاً سنموت......فهل يعني ذلك بأن نمتنع عن الأكل و العلاج و السفر و النوم و بناء المستقبل؟! فلو فعلنا ذلك لتهدمت الحياة ولم يبق علي وجه الأرض كائن حي!
الطبيب: تعلمين يا ياسمين بأن في جسد كل إنسان أجهزة وآلات كثيرة هي كلها أمانات من الله أعطانا إياها لنعتني بها........فأنت مثلاً........إذا أعطتك صديقتك لعبة.......هل ستقومين بتكسيرها أم ستعتنين بها؟ بل سأعتني بها وأحافظ عليها.
الطبيب: وكذلك هو الحال لجهازك الهضمي والعصبي والقلب و المعدة والعينين والأذنين, كلها أجهزة ينبغي عليك الاهتمام بها وصيانتها من التلف.......والأدوية والمواد الكيميائية التي سنقوم بإعطائك إياها إنما لها هدفان.....الأول تخفيف الألم والثاني المحافظة علي أجهزتك من التلف.......حتي عندما بربك وخالقك تقولين له لقد حافظت علي الأمانات التي جعلتني مسؤلة عنها.......ها أنا ذا أعيدها لك إلا ما تلف من غير قصد منس.
ياسمين: إذا كان الأمر كذلك فأنا مستعدة لأخذ العلاج حتي لا أقف أمام الله كوقوفي أمام صديقتي إذا كسرت لها لعبها.
مضت الستة أشهر ثقيلة وحزينة بالنسبة كأسرة ستفقد ابنتها المدللة والمحبوبة.........وعكس ذلك كان بالنسبة لابنتي ياسمين............فكان كل يوم يمر يزيدها إشراقاً وجمالاً وقرباً من الله تعالي....فقد قامت بحفظ سور القرآن......وسألناها لماذا تحفظين القرآن؟ قالت: علمت بأن الله يحب القرآن....فأردت أن أقول له يا رب لقد حفظت بعض سور القرآن لأنك تحب من يحفظه..........وكانت كثيرة الصلاة وقوفاً......وأحياناً تصلي علي سريرها....فسألتها عن ذلك فقالت: سمعت أن رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (قرة عيني في الصلاة) فأحببت أن تكون الصلاة لي قرة عين.
وحان وقت رحيلها وأشرق بالأنوار وجهها وأمتلأت شفتاها بابتسامة واسعة وأخذت تقرأ سورة (يس) التي حفظتها وكانت تجد مشقة في قراءتها إلي أن ختمت السورة........ثم قرأت سورة الحمد وسورة الصمد ثم آية الكرسي ثم قالت: الحمد لله العظيم الذي علمني القرآن وحفظنيه وقوي جسمي للصلاة وساعدني وأنار حياتي بوالدين مؤمنين مسلمين صابرين, حمداً كثيراً أبداً......وأشكره بأنه لم يجعلني كافرة أو عاصية أنا تاركة للصلاة.
ثم قالت: تنح يا والدي قليلاً, فإن سقف الحجرة قد انشق وأري أناساً مبتسمين لابسين البياض وهم قادمون نحوي ويدعونني لمشاركتهم في التحليق معهم إلي الله تعالي........
وما لبثت أن أغمضت عينيها وهي مبتسمة ورحلت إلي رب العالمين.