علم التصوف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيد الموحدين علم التصوف علم شريف، أخذ من المسلمين اهتماماً ملحوظاً وجهداً كبيراً، وهو عند أهله علمائهم وعامتهم والقائمين به من أرفع العلوم وأدقها، ومن أخص المعارف وأشرفها.
التصوف في القرون الأولى:
ولئن لم يكن معروفاً بين رجال الصدر الأول من السلف الصالح باسمه الدارج وهو (علم التصوف) فإنه كان معروفاً لهم كمجموعة من المعارف والتوجهات والقواعد والسلوكيات.
يقول الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري رحمه الله في رسالته الشهيرة المعروفة ( بالرسالة القشيرية) راداً على الذين أنكروا كون هذا العلم من الدين لعدم وجود اسمه فيه: اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم، سوى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا أفضلية فوقها. فقيل لهم: الصحابة. ولما أدركهم أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة بالتابعين .
ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين: الزهاد والعباد ، ثم ظهرت البدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة، المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى، المحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة.
أوائل الصوفية:
وقد صدق القشيري في ذلك، فإن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة 150هـ، ثم تتالت التسمية في كثير من العباد والزهاد وأهل الإقبال على الله بالتجرد، وعلى النفس بالإصلاح ، أمثال أبي حازم سلمةَ بن دينار المخزومي، والمعافى بن عمران، والفضيل بن عياض، ومعروف الكوفي، وبشربن الحارث الحافي، والحارث بن أسد المحاسبي، وأبي يزيد البسطامي، وأبي بكر الوراق، وسهيل بن عبد الله التستري، وأبي القاسم الجنيد بن محمد.
تعريف علم التصوف:
وقبل أن نخوض في مبادئ هذا العلم وأركانه، ينبغي أن نقف على تعريفه وحدّه.
وقد كثرت تعاريفه المأثورة المنقولة عن فطاحل العلماء وكبراء الأمة.
فهذا السيوطي يعرفه بأنه تجريد القلب لله تعالى واحتقار ما سواه.
وهذا حاجي خليفة في (كشف الظنون) يعرفه بأنه: علم يعرف به كيفية ترقي أهل الكمال من النوع الإنساني في مدارج سعادتهم، والأمور العارضة لهم في درجاتهم بقدر الطاقة البشرية.
وقريب منها عرفه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فقال: التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفس، وتصفية الأخلاق، وتعمير الظاهر والباطن، لنيل السعادة الأبدية . وقال غيرهم غير ذلك.
وقد علق الشيخ زروق في كتابه (قواعد التصوف) على تعدد التعاريف فقال: وقد حٌدّ (أي عرف) التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله. وإنما هي وجوه فيه.
كيف نشأ علم التصوف:
أما عن منشئه ومبدئه فلنقل ما قاله العلامة ابن خلدون في مقدمته:
(وهذا العلم ـ يعني علم التصوف ـ من العلوم الشرعية الحادثة في الملة.
وأصله: أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية ، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والاعراضُ عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهدُ في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفرادُ عن الخلق والخلوةُ للعبادة. وكان ذلك عامّاً في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم التصوف.
الصوفية ودور مشرف في التاريخ الإسلامي:
وفي مجال الحديث عن دور الصوفية في توجيه مسار كثير من صفحات التاريخ الإسلامي، يقول الدكتور محمد الزحيلي في كتابه (تعريف عام بالعلوم الشرعية): وقد كان للصوفية والتصوف والمتصوفة، أو ما يعرف بالطريقة شأن في التاريخ الإسلامي. كما كان لها دور بارز في الدعوة الإسلامية وانتشار الإسلام في بعض القارات والبلاد ، كالطريقة السنوسية في أفريقيا، والطرق المختلفة في جنوب السودان وغرب أفريقيا، كما كان للتصوف ونظرياته ومبادئه اهتمام خاص لدى بعض المستشرقين وعلماء الغرب.
ويتابع الزحيلي قائلاً ولا يزال للتصوف أثر واضح في كثير من البلاد الإسلامية ، كما يعتبر صورة مشرقة في نظر بعض المسلمين لنشر الإسلام اليوم ودخول بعض الغربيين عن طريقه إلى الإسلام ، لأنه يغطي زوايا حساسة ومهمة في حياة الأفراد، ويلبي الخَوَاء الروحي والنفسي الذي يعيشه الغربي في حياة الفكرية وحضارته المادية.
أصول علم التصوف ومسائله:
هذا العلم الهام له أصول ومرتكزات، بينها كثير من العلماء في كتبهم التي تحدثت عن التصوف ومبادئه .
وقد أجمل أصوله الشيخ محمد أمين الكردي في مؤلفه القيم (تنوير القلوب) بقوله: وأصول التصوف خمسة:
1ـ تقوى الله في السر والعلانية، وتتحقق بالورع والاستقامة.
2ـ واتباع السنة في الأقوال والأفعال. ويتحقق بالحفظ وحسن الخلق.
3ـ والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، ويتحقق بالصبر والتوكل.
4ـ والرضا عن الله في القليل والكثير، ويتحقق بالقناعة والتفويض.
5ـ والرجوع إلى الله في السراء والضراء، ويتحقق بالشكر في السراء والالتجاء إليه في الضراء.
ومسائله: قضاياه والباحثة عن صفات القلوب .
ويتبع ذلك شرح الكلمات التي تتداول بين القوم، كالمقامات، والأحوال، والذكر، والمحبة، والفناء، والخوف، والورع، والتوكل، والتوبة، والرجاء، والكرامة، والتحلية، والتخلية ، وهي مصطلحات لها مدلولاتها في علم التصوف مستمدةُُ من آيات الكتاب العزيز، وكلام الرسول البشير صلى الله عليه وسلم، وما أثر عن خواص الأمة ورجالها من أقوال شارحة أو أحوال معبرة.
الانحراف الدخيل على التصوف:
ولكننا من باب الأمانة والاحتراز لا نجد بداً من التنويه إلى ما تسرب إلى علم التصوف خلال ما بعد القرن الرابع الهجري من أفكار دخيلة عليه وعلى الإسلام، يتبرأ منها كل مسلم، وينفيها عن التصوف الأصيل كل عالم متمكن، ويجهر بمحاربتها كل غيور، مع التذكير بأن قواعد هذا العلم الصافية لا تزال واضحة لكل ذي عينين، باحث عن الحقيقة، بعيد عن التشويش، مشمر عن ساعد الجد في الإقبال على الله.
إن تلك الشوائب الدخيلة لا تضر بأصله، ولا تغير بأهله، فما هي إلا كسحابة صيف أمام شمس ساطعة.
المراجع الأساسية في التصوف:
ولقد كتب علماء الإسلام كتباً كثيرة جداً في هذا العلم ، بل إن مبادئ التصوف وكتبه وأوائل ماسطر فيه يبدأ من منتصف القرن الهجري الثاني، من أمثال كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك، وكتاب الزهد لأحمد بن حنبل.
ولكن أشهر كتب التصوف الأصيلة هي على وجه الإجمال ما يلي:
1ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني المحدث العالم،وفي كتابه هذا جمع أبو نعيم ترجمة ثلة كبيرة من أعلام الإسلام وأقوالهم وحكاياتهم.
2ـ الرسالة القشيرية لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، وهي رسالة لطيفة جامعة لمبادئ التصوف ومسائله ورجاله.
3ـ التعرف لمذهب أهل التصوف لتاج الإسلام أبي بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي الحنفي.
4ـ إحياء علوم الدين للإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي الطوسي. وهو كتاب ضخم من أنفس كتب الإسلام وأغزرها معاني وتحليلات وفوائد وتوجيهات..وكذلك كتب الغزالي الأخرى كالمنقذ من الضلال، والأربعين في أصول الدين.
5ـ قوت القلوب في معاملة المحبوب، ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد لأبي طالب محمد بن علي المكي.
6ـ عوارف المعارف لعبد القادر بن عبد الله السهروردي
7ـ كتب الحكيم الترمذي أبي عبد الله محمد بن علي.
8ـ كتاب حقائق عن التصوف للشيخ عبد القادر عيسى الحلبي.
9ـ كتاب تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب للشيخ محمد أمين الكردي.
10ـ كتاب تربيتنا الروحية للشيخ سعيد حوى وكذلك كتبه الأخرى في هذا المجال.
11ـ الحِكَم لابن عطاء الله أحمد بن محمد بن عطاء الله السكندري المعروفة بالحكم العطائية.
12ـ مدارج السالكين شرح منازل السائرين لابن القيم.
13ـ معراج التشوف إلى التصوف لابن عجيبة.
نعم لقد كان التصوف هو العلم المتمم لعلم الفقهاء والمحدثين وأهل الفتيا. ولم يكن نقيضاً له ولا ضداً.
يقول ابن خلدون في مقدمته: صار علم الشريعة على صنفين:
صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات..
وصنف مخصوص بالقوم ـ أي الصوفية ـ في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي فيها من ذوق إلى ذوق.