الصوامة القوامة
حفصة بنت عمر.. الصوامة القوامة
--------------------------------------------------------------------------------
لم يقتصر دور النساء على صنع التاريخ فقط بل هناك من النساء من نزل فيهن قرآن يتلى الى قيام الساعة يضع احكاما ويقر قواعد تضبط حركة الحياة وترشد الناس الى ما ينبغي ان تكون عليه معاملاتهم العامة والخاصة.
من هؤلاء النساء السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما التي جاء أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بمراجعتها لما طلقها حيث نزل إليه جبريل عليه السلام قائلا: “أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة”.
ولدت السيدة حفصة بنت عمر وكانت قريش تبني البيت قبل بعثة الرسول بالنبوة بخمس سنين، وهي شقيقة عبدالله بن عمر، وأمها زينب بنت مظعون بن حبيب، وهي من المهاجرات الى المدينة.. تزوجت من “خنيس بن حذافة بن قيس السهمي” وهو من مهاجري الحبشة وهاجرت معه الى المدينة، ثم ما لبث ان توفي عنها بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر سنة اثنتين من الهجرة وكانت حينئذ في الثامنة عشرة من عمرها.
أم المؤمنين
فلما تأيمت حفصة عرض والدها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على كل من عثمان بن عفان وأبي بكر الصديق رضى الله عنهما ان يتزوج حفصة، وفي ذلك يقول عمر كما رواه الامام احمد والشيخان والنسائي: فلقيت عثمان فعرضت عليه حفصة فقلت: ان شئت انكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري وكانت زوجته رقية بنت رسول الله قد توفيت عن عثمان وكان يريد اختها أم كلثوم فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي ألا أتزوج في يومي هذا.
قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت: ان شئت انكحتك حفصة بنت عمر. فصمت ابوبكر فلم يرجع الي شيئا فكنت أوجد عليه مني على عثمان. فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني ابوبكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم ارجع إليك شيئا؟ فقلت: نعم. فقال: انه لم يمنعني ان أرجع إليك فيما عرضت علي إلا اني كنت علمت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبلتها.
وروى ابن سعد عن عمر رضي الله عنه قال: لما توفى خنيس بن حذافة عرضت حفصة على عثمان فأعرض عني فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، لأتعجب من عثمان، إني عرضت عليه حفصة فأعرض عني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد زوج الله تعالى عثمان خيرا من ابنتك، وزوج ابنتك خيرا من عثمان.
حلف ثلاثي
جاءت حفصة الى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي البيت سودة وعائشة رضي الله عنهما وقد اتخذت عائشة موقفا من العروس الجديدة إلا انهما ما لبثتا ان اتحدتا امام الضرائر الجدد حتى ان حفصة اتخذت موقفا من مارية القبطية عندما وجدتها مع الرسول، واشتركت مع عائشة لصرف الرسول عن نسائه الأخريات خاصة إذا كن على مستوى عال من الجمال.
وقد لاقت السيدة زينب بنت جحش من اتفاق عائشة وحفصة وسودة.. حيلة لصرف النبي عنها خاصة بعد ان عاتبته فيها السماء، واتفقن في القول للرسول عندما يخرج من عند زينب بنت جحش بأنهن يشممن رائحة المغافير (ثمرة كريهة الرائحة) وكأن الرسول قد أكل منها!! وهذا بعد ان عرفن بأن الرسول قد شرب من عند زينب عسلا كان قد أهدي اليها من أهلها. فلما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى عائشة وكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى العصر مر على نسائه فيمكث عند كل واحدة وقتا يسيرا للايناس وذهاب الوحشة. وقالت له عائشة ما قالته من قبل سودة وحفصة: إني أجد منك ريح المغافير.. فقال: لا، ولكني شربت عسلا عند زينب. فقالت: لعله قد جرست نحله العرفط. وكان الرسول يحب الريح الطيب ويكره أن يأكل الطعام الذي يبعث رائحة كريهة، لذلك حرم على نفسه أكل العسل فنزل قوله تعالى في سورة التحريم: “يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة ازواجك والله غفور رحيم”.
الصبر أو التسريح
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بالسيدة حفصة التي كانت لا تزال صغيرة السن.. فقد حدث ان كانت تزور اباها فلما رجعت رأت في بيتها مارية القبطية التي ذهبت الى رسول الله في شأن لها وكان الستر مسدلا.. وبعد انصرافها دخلت على الرسول صلى الله عليه وسلم باكية مقهورة ولم تهدأ حتى حرم الرسول مارية على نفسه موصيا حفصة بكتمان ما كان، لكنها أبلغت عائشة سرها التي اندفعت بدورها تستثير ضرائرها وكن جميعا في غيرة من مارية القبطية لحملها من الرسول فانضممن جميعا الى عائشة، وقد تناسين غيرتهن منها وكانت كلمتهن: “صبرنا على ايثار الرسول لابنة ابي بكر، وما بقي إلا تلك الأمة القبطية، فأي هوان؟!”
وترفق الرسول بهن ما استطاع لكنهن تمادين في اللجاج الى حد الشطط فما كان من الرسول إلا ان اعتزلهن جميعا في صرامة لم يألفنها.. ثم شكون انهن لا يجدن نصيبهن من النفقة والزينة، واجتمعت كلمتهن على الشكوى واشتددن فيها حتى وجم النبي صلى الله عليه وسلم وهم بتسريحهن أو تخييرهن بين الصبر على معيشتهن والتسريح ونزل الوحي بعد شهر من اعتزال النبي لنسائه يقول له تعالى في سورة الاحزاب: “يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا. وان كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما” الآيتان 28 و29. فأجبن جميعا بتفضيل العيش معه على متاع الدنيا.
راوية الحديث
وقد اختلفت الروايات في حفصة على وجه الخصوص فقيل ان النبي طلقها طلقة واحدة ثم ارتجعها.. وهذا الارتجاع تختلف فيه الروايات فتذهب رواية الى ان ذلك كان رحمة بعمر الذي حثا التراب على رأسه وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها. فنزل جبريل على النبي بأمر الله. وفي رواية اخرى ان جبريل قال للرسول: “أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وانها زوجتك في الجنة”.
ثم ما لبثت حفصة ان ظلت في بيت الرسول لا تسبب له ما يكرهه حتى لحق بالرفيق الأعلى فكانت هي التي اختيرت من بين أمهات المؤمنين جميعا بمن فيهن عائشة لتحفظ النسخة الخطية للقرآن الكريم وظلت في مأمن حتى أخذها عثمان في خلافته لينسخ منها النسخ الأربع التي وزعت على الأمصار.
وقد تفرغت حفصة بعد ذلك للعبادة حتى انها امتنعت عن الخروج مع عائشة في الجيش المطالب بدم عثمان.. وظلت صوامة قوامة حتى نهاية حياتها حيث توفيت سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية وكان لها من العمر ستون عاما، ودفنت في المدينة، بعد ان روت عن النبي الحديث وروى عنها أخوها عبدالله بن عمر، وذكر الذهبي ان أحدايثها في كتب السنة الأربعة.. كما كانت من امهات المؤمنين اللائي جلسن للفتيا.. فرضي الله عنها وارضاها.