الحياة الطيبة
من كتاب تنوير المومنات لاستاذ عبد السلام ياسين
تسوية بين الذكر والأنثى في جزاء الأعمال بشرط الإيمان. أعلاهما إيمانا أصلحهما عملا. وإنما يتقبل الله من المتقين.
بأي سعادة تبشر هذه الآية؟ ماذا ينتظر المومنون والمومنات من إيمانهم بالله وبجزاء الآخرة ومن أعمالهم؟ بعض الناس يتشوقون للحكم الإسلامي منتظرين أن يجيئهم الحكم الإسلامي بالسعادة العاجلة، بحل المشاكل، وتوفير الراحة والرخاء. وبعض الناطقين باسم الإسلام والكاتبين يعدون الناس في الحملات الانتخابية بأن الإسلام حل لكل المشاكل وكأن الإسلام تعويذة سحرية، وكأن التفاف الناس حول المشروع الإسلامي، وتوكيلهم غيرَهم، وتصويتهم في صناديق الاقتراع على الأفاضل المتدينين يعفي الجميع من بذل الجهد واقتحام العقبة وشق الطريق بصبر وطول نَفس، وانتظار النتائج بعد بلوغ الوُسع في العطاء من العَرق والاجتهاد والمشقة.
هذا وجه الإقبال على الإسلام رجاء عطاء الإسلام. وللمقبلين من هذا الوجه العذر ماداموا لم يُبصَّروا بأن الالتفاف حول الدعوة الإسلامية إنما برهان صدقه البذل والعطاء وتحمل المشاق والصبر وشد الحزام.
الوجه الآخر هو الذي يعرض منه الزاهدون في الدنيا عن جهاد بنات الدنيا وأبنائها. أناس يحسبون أن الإيمان والعمل الصالح يقتصر على صلواتك ونسكك وتلاوتك وذكرك، ومع ذلك عافية الابتعاد عن ساحة البلاء والفتنة.
في هذا الفصل الذي عرضنا فيه التصور الدوابي للسعادة والسعي الإيماني الإحساني للسعادة نريد أن نختم بالتمييز بين سعادة المجاهدين المحسنين، وبين سعادة عامة المسلمين. المحسنون ينتظرون جزاءهم في الآخرة من فضل ربهم صابرين في السراء والضراء. والمسلمون إن لم يضمن لهم الإسلام سعادة الخبز والرخاء فما هم معك إلا ريثما يتلقون منك ما وعدتَ تصريحا أو ضمنا، وإلا فهم منفضون من حولك.
يستجيب الرجل وتستجيب المرأة للدعوة حماسا يسوق، أو توبةَ ساعة تُنسى، أو انتماء سياسيا لجماعة إسلامية قوية. هذا الصنف ينتظر من الدعوة أن تعطيه، وربما يُمْضِي عُمره في كنف الدعوة لا يعطي، أو لا يقدر على عطاء، أو لم يشترط عليه أحد عطاء من أول قدم يضعها في الدعوة.
كما ينقسم المومنون الذين يعملون الصالحات إلى ذكران وإناث، وعد الله الذكران والإناث منهم بالحياة الطيبة، كذلك ينقسم المومنون والمومنات إلى صفوة إحسانية هي حاملة اللواء الصابرة على البلوى، وإلى عامة من اللاحقين. صفوة تعلقت همتها بالله والدار الآخرة فالدنيا عندها امتحان إثر امتحان، على هذا الأساس تعمل. وآخرون نصيبهم من الدنيا يشغل همه الحيز الأكبر في نفوسهم.
لكل من هؤلاء جزاء وحياة طيبة موعودة هنا وفي الآخرة ما عملوا صالحا. ما أحسنوا إحسان من يعبد الله كأنه يراه، وإحسان من يتقن عمله، وإحسان من غلب أنانيته وَوُقي شح نفسه. وعلى قدر نزول المجموع عن مرتبة الإحسان، بكل معاني الإحسان، يقل الجزاء هنا للمجموع، وإن كان كل فرد ذكر أو أنثى لا يضيع عمله في الآخرة، يُعطى جزاءه على قدر إحسانه هو، لا على قدر المجموع الذي عايشهُ في الدنيا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يظلمُ مومن حسنة. يُعطى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيُطعم بحسناتِ ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضَى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها". أخرجه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وهذا مِصداقُ قوله تعالى: )ويومَ يُعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها. فاليوم تُجزوْن عذاب الهُونِ بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون(.(سورة الأحقاف، الآية: 19)
إنه لا يُطْلَب من كل الناس أن يتخطَّوْا نصيبهم من الدنيا يرْضَوْن منها بالبُلغة. فلا يحب بعض الناس الإسلام وحكم الإسلام إلا إن ألّف قلوبهم بالعطاء. ولا يستغني حتى المومنون الصادقون المجاهدون عن حد أدنى من الرخاء خاصة في مجتمع الاستهلاك والتكاثر.
لكن في الظروف الاستثنائية، كما هي ظروف الأمة في زمننا، وعندما يكون الاختيار أمام الأمة بين أمرين: إما الجهاد على الواجهات وإما الموت، عندئذ يكون على الصفوة الطليعة أن يبرهنوا عملا لا مجرد قول عن انسلاخهم عن الأنانية والشح وعيش الدنيا.
في غزوة الخندق أحاطت جيوش قريش وحلفائها بالمدينة، واشتد الهول، والتفت الصفوة من المهاجرين والأنصار حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحفِر هو ويضرب الصخر بمعوله، ويحفرون معه الخندق ليدافعوا عن حوزة الإسلام. كانوا في غاية التعب، كانت عيشتهم في الدنيا مهددة. لكن إيمانهم القوي وإحسانهم عبر عنه نشيدهم الذي كانوا ينشدون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبـدا
فيجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: "اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة". روى البخاري عن أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يُؤْتَوْن بِمِلْءِ الكف من الشعير، فيصنع لهم بإِهالةٍ سنِخة (بإدام من زيت أو سمن قديم متعفن)، توضع بين يدي القوم، والقومُ جياع، وهي بَشِعَة في الحلق، ولها ريح منتن.
كنا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رأينا قضيته مع نسائه حين سألنه توسعة لا يريدها، وكنا في بيت فاطمة رضي الله عنها رأينا كيف كان زوجها الإمام يسنو حتى شكا صدره، وكيف مَجِلتْ يداها من أثر الطحن بالرحى. وهؤلاء صحابة في جهاد وفقر وجوع وطُعمة "بشِعة في الحلق ولها ريح منتن".
من لا يدخلْ في الدعوة من باب التوبة النصوح، ومن لا يذكرْ الله ويعبد الله حتى يحصل له اليقين بالآخرة، ومن لا يتقربْ إلى الله حتى يحبه الله فيرفع همته إلى طلب وجهه الكريم، كيف يثبت معك في مواقف الابتلاء؟ كيف تثبت من لا تفعل؟
نستأنس هنا بقصة تروى عن السلف الصالح. قصة رمزية تصور نفسية المتوكل على الله، الباذل جهده في سبيل الله، ونفسية المتواكل القاعد المنتظر أن يأتيه رزق الضعفاء من غيره.
الفُضيل بن عياض العالم الزاهد القدوة إمام الحجاز شيخ الإسلام في القرن الثاني من الهجرة، كان له صديق عابد. قرر العابد يوما أن يخرج في تجارة من بلده، وودع الإمام. لكنه لم يلبث أن عاد للبلد. سأله الفضيل ما القصة؟ قال: بينما كنت في الطريق أبصرت قُبّرَة (طائرا صغيرا) عمياءَ. فسألت نفسي كيف تعيش هذه ومِم تقتات؟ ثم إذا بقبَّرة مبصرة تأتيها بطعام تضعه في فمها. قال العابد المومن: فعلمت أن الله تعالى يرزق من يشاء كما يشاء. ورجعت مقتنعا بأن رزقي يأتيني بتجارة وبدون تجارة.
جميل بالمومنين أن تكون عقيدتهم بأن الله هو الرزاق راسخة. بل لا إيمان لمن لم يعتقد ذلك. لكن من يومن بهذا ويكفر بالأسباب التي وضعها الله في الكون إنما هو قبرة، إن لم تكن عمياء فهي عوراء. وقد فسر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التوكل على الله حق التوكل أن نفعل كما تفعل الطير الحازمة العازمة: تغدو في طلب رزقها. تبكر وتسبق طلوع الشمس إلى النشاط والسعي والبحث.
فماذا قال الفضيل؟ وكان الفضيل رحمه الله من أئمة الزهاد.
قال للعابد: يا أخي، الأمر كما تقول، لكن كيف ترضى أن تكون مثل القبرة العمياء التي يسعى إليها برزقها غيرها، ولا تسمو بك همة لتكون أنت القبرة المبصرة التي تسعى لنفسها ولغيرها. كيف ترضى بمرتبة الضعفاء ولك قدرة على الكسب؟
تلك قصة أعدنا صياغتها لضرب المثل لفريقين من المسلمين: فريق متحمس للحكم الإسلامي ينتظر من الحكم الإسلامي أن يأتيه برزقه باردا ناعما سعيدا. وفريق هم القلة والصفوة قرأوا السيرة النبوية وقرأوا بعدُ في كتاب سنة الله في التاريخ مَلامح المَسْبعة الرأسمالية الرهيبة التي يعيش العالم تحت وطئتها في زمننا.
قبراتٍ عمياواتٍ تردن معشر المومنات، أم غادياتٍ ساعياتٍ على أنفسهن وعلى أمتهن؟ نعرض إن شاء الله لعمل المرأة خارج بيتها وللضرورة التي تدفعها للكسب. عمياء صماء من غَمّت آفاقها الأنانية والأثرة وحب الذات. يبني غيرُها معادهن بالبذل هنا، ويتراكم في أدراجها وصناديقها المتاع الزائل. عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصارية والأنصاري الذين أطعما الضيف عَشاء صبيتهما وأطفآ المصباح ليظن الضيف أنهما يؤاكلانه، ليشبع هو ولا ينقُصا بمؤاكلته من الطعام القليل، وقال : «لقد عجب الله عز وجل-أو ضحك- من فلان وفلانة". رواه البخاري.
عجَبٌ من امرأة وزوجها يَجُوعان ويُجوِّعان الصبية لِيَطْعَم الضيف، ثم لا يكتفيان بهذا الإيثار العجيب حتى يحتالا على الضيف. احتالا لآخرتهما فعجب ربنا من فلان وفلانة.
زهد هذا، وإحسان هذا، وبذل هذا، وقتل للأنانية والشح هذا!
السُّدة الإحسانية العالية لمن ينفق من كسبه، ويؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة كما مدح الله في القرآن الكريم فلانا وفلانة وسائر الأنصار رضي الله عنهم.
الفضيل الإمام كان قدوة الزهاد في زمنه. قال له هرون الرشيد العباسي متعجبا: ما أزهدك! قال الفضيل: أنت أزهد مني، لأني زهدت في الدنيا الفانية، وأنت زهدت في الآخرة الباقية. وقال له: يا حسَنَ الوجه! أنت الذي أمْرُ هذه الأمة بيدك وفي عنقك. لقد تقلدت أمرا عظيما! بَكَى الرشيد وأعطى العلماء الحاضرين عشرة آلاف درهم لكل واحد. وامتنع الفضيل عن أخذ عطاء الملك. سأله العالم الكبير سفيان بن عُيَيْنة قائلا: أخطأت! لو صرفتها في أبواب البر! قال الفضيل: "أنت فقيه البلد وتغلَط هذا الغلط! لو طابت لأولئك طابت لي".
إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. وإنما يتقبل الله من المتقين.